الجمعة، 17 أبريل 2015



المنزل

كان السيد لطفى عبد الرازق موظفا صغيرا فى الحكومة محدود الدخل .. ورب أسرة مكونة من خمسة أشخاص .. وكانت أمنيته فى الحياة أن يمتلك بيتا يغنيه عن السكن بالإيجار .. فقد ظل أكثر من ثلاثين سنة يدفع الإيجار لأصحاب البيوت ..
وانتقل فى كل أحياء القاهرة وأقام فى البيوت القديمة والعمارات الحديثة وجاور أناسا طيبين .. وآخرين من الأشرار وتعارك بسبب السكن مع واحد من الملاك وظلت القضية تدور أمام المحاكم سنوات طويلة .. حتى حفيت قدماه وهو يتردد على مكاتب المحامين ..
وكان يحصى هذه المتاعب كلها ويحصى المبالغ التى دفعها فى خلال هذه السنوات لأصحاب البيوت .. ويشعر بالغيظ .. فقد كان يمكن جدا أن يبنى بهذه النقود بيتا فى أجمل الأحياء قاطبة .. ويضع مفتاحه فى جيبه ..
ولكنه لم يفعل .. واستغل أبشع استغلال .. وذهب جزء كبير من دخله فى الإيجار دون أن يمتلك لنفسه " أكرة " فى باب أو " شنكلا " لنافذة .. ولكن الفرصة لاتزال أمامه سانحة برغم مرور السنين .. ولا فائدة ترجى من الندم على مافات .. وأخذ يركز خواطره على الحى الذى يختاره .. ويبنى فيه البيت ..
واختار ضاحية حلوان لأن القطار ينقله منها إلى قلب القاهرة مباشرة ويغنيه عن ركوب مواصلة أخرى .. ولأن حلوان ستشفق على شيخوخته .. عندما تضعف خلايا جسمه .. وتنتابه الأمراض ..
ولأنه بطبعه يحب الهدوء ويحن إلى مشارف الصحراء ويبتهج من منظر القمر وهو يفضض رمالها الزمردية ..
ولأنه يستطيع هناك أن يمتلك قطعة أرض واسعة ويحيط المنزل بحديقة ناضرة تكون وفق رغباته .. ويجلس فى الشرفة مع زوجته يطالع الصحف ويستمتعان بالهواء وبمنظر الطبيعة ومنظر الصحراء فى الغروب ..
ويتركان الأولاد يلعبون فى الحديقة .. ويستطيع هو فى حلوان أيضا أن يحقق هوايته فى الزراعة .. فيزرع فى الحديقة ملوخية .. وجرجيرا وفجلا .. وربما استطاع أن يزرع البطيخ مادامت الأرض رملية ..
وكان السيد لطفى .. رجلا ودودا كثير النشاط .. وواسع الخيال ولكن نشاطه كله يذهب فى أشياء غير مثمرة بالنسبة له فظل محدود الدخل أبدا .. وكان هذا الدخل المحدود .. هو الذى يشل يده عن تحقيق رغبته فى بناء المنزل ..
وكان يتحدث برغبته مع كل من يعرفه .. ولا يجد منهم المعونة الحقة .. ومنهم من كان يشفق عليه فى أسف ..
وظلت الفكرة تطوف برأسه كحلم من أحلام اليقظة .. وتعبر كسوانح يشتغل لها خاطرة لحظات .. ثم يخنقها الفقر .. وحاجات المعيشة ..
وجاءه المال عن طريق مبلغ آل إليه .. بطريق الميراث من أمه وضم إليه حلى زوجته .. وتجمع لديه حوالى 600 جنيه .. أشعل فى نفسه الفكرة .. وعندما شرع فى البحث عن قطعة الأرض مرض ابنه الصغير بالتيفود .. ومرضت زوجته .. وطال المرض .. حتى ذهب جزء كبير من المبلغ فى العلاج والتمريض .. وأصبح عاجزا .. عن التفكير فى الشىء المتسلط على عقله ..
فلما مات والد زوجته .. وورثت عنه أربعة أفدنة فى الفيوم .. اشتعلت الفكرة فى رأسه من جديد .. وكان يجد مشقة كبيرة .. فى تحصيل ايجار هذه الأطيان .. وتحدث مع زوجته .. فوافقت على بيعها ..
وفى صباح يوم استقل القطار إلى الفيوم ورجع وفى جيبه الف جنيه ..
وكان يخشى أن يضيع منه هذا المبلغ أيضا قبل أن ينفذ غرضه الوحيد ولذلك أخذ فى اليوم التالى يسأل كل من يعرفه عن المقاولين ودلوه على أكثر من مقاول ..
وعرف بعد الالتقاء بهم والحديث معهم أن الألف جبيه لاتكفى .. وأن ثمن الأرض وحدها سيأخذ نصف هذا المبلغ .. وعليه أن يتدبر الفين على الأقل .. إذا كان يرغب حقا فى منزل جميل ..
ووجم واعتراه السهوم .. فمن أين يأتى بالألفين ..؟ وظل رأسه يفكر ..
وسمع عن شخص يعرفه .. له مشروعات مربحة .. فلما قابله حدثه بأنه لو أعطاه الألف ليدخلها فى مشروعاته ويستثمرها .. سيردها له ألفين بعد سنة واحدة .. علاوة على الأرباح الشهرية ..
واغتبط لطفى بهذا العرض وأعطى الرجل المبلغ وأخذ منه ايصالا صغيرا .. وأعطاه الرجل الأرباح مشاهرة .. عن الشهر الأول .. والشهر الثانى ..
وفى الشهر الثالث قال له أن المشرف الذى يراجع دفاتره أفهمه أنه يتحتم صرف الأرباح مرة واحدة فى آخر السنة ..لمسألة تتعلق بالضرائب ..
وصدق لطفى هذا الكلام .. لأنه كان يتعود الصدق ويثق فى كل الناس ..
وفى آخر السنة .. لم يصرف له الرجل شيئا ..
وكان يذهب إليه فى بيته .. فيمهله أياما ثم أصبح يراوغ ويزوغ منه ..
وأخيرا أنكر الرجل أنه أخذ منه المبلغ كلية .. وطعن فى الإيصال وادعى أنه مزور .. وأحيل الأمر إلى المحكمة لتفصل فيه ..
وظلت القضية .. أمام المحاكم مدة طويلة ثم حوكم الرجل .. وسجن عدة شهور ..
وكان السيد لطفى فى خلال هذه الفترة صامتا ويبدو حزينا على الرجل أكثر من حزنه على المبلغ ..
وكان يحزنه أكثر أن السجن لم يحل المسألة .. فلم يبن البيت .. ولم يسترد المبلغ الذى ضاع إلى الأبد .. وفى خلال تلك الفترة الحزينة اعترته الكآبة ..
وكان إذا سأله شخص عن المنزل .. يقول ووجهه يحمر كأنه هو الذى فعل الفعلة :
ـ عبد الحميد .. أخذ المبلغ والظاهر أنه خسر فى التجارة .. ثم لايضيف شيئا آخر ..
لم يكن يصف عبد الحميد بأنه نصاب أو محتال .. لأنه فى الواقع لم يكن يتصور قط أنه يوجد إنسان فى الحياة له هذه الصفة ..
كان يتصور الناس جميعا فى مثل طيبته ..
ومرت سنوات .. ونسى فى خلالها لطفى .. ما فعله فيه عبد الحميد .. ولكنه لم ينس المنزل .. كانت الفكرة قد تملكته حتى استحوزت على حواسه .. واستقرت فى أعماقه .. وكانت تغيب عنه شهرا وشهورا .. ولكنها تعود وتستقر فى بؤرة شعوره .. وتستحوز عليه وتصبح المسيطرة على كل تحركاته ..
ومات أخوه الأكبر .. ولم يكن متزوجا .. فورث منه مبلغا لابأس به .. وكان العوض عما ذهب .. وعادت فكرة البيت .. إلى رأسه ..
وكان يتتبع اعلانات الشركات التى تبنى المساكن ..
وقرأ اعلانا عن شركة تبنى المساكن لذوى الدخل المحدود .. نظير دفع جزء يسير من التكاليف وتقسيط الباقى على آجال طويلة .. وقرأ نشرة الشركة فاهتز قلبه .. انها وفق رغباته .. وكأنها وجدت له وحده .. ولتيسر له كل السبل وتتخطى كل العقبات التى اعترضته فى الماضى ..
ودون عنوان الشركة غى مذكرته الصغيرة ..
وفى عصر يوم كان يتجه إليها وقلبه يدق بعنف .. ووجد مقرها .. فى عمارة حديثة أرضها تلمع وجدرانها بالرخام الملون ..
ووجد الشركة فى شقة كبيرة .. واستقبلته سكرتيرة جميلة على الباب .. قادته إلى موظف يجلس فى غرفة أنيقة وبجواره التليفون .. وأخذه هذا من ذراعه إلى غرفة أرحب .. بها أثاث أكثر بهجة وفى وسطها مكتب فخم يجلس إليه رجل متوسط العمر حليق ومتأنق .. وعيناه تلتمع بالذكاء .. وبين يديه خريطة القاهرة وضواحيها .. وعلى الجدران صف من الفيلات الأنيقة تزهو على سيف جدول وتفضضها عين الشمس ..
وكان كل ماحوله .. يتحدث بمجهود الشركة فى المعمار وذوقها فى اختيار الموقع ..
وقدم له السكرتير .. كراسة مطبوعة .. فيها شروط الشركة ونظام تكوينها .. وطريقة دفع الأقساط ..
وكان السكرتير يجيب على كل أسئلة السيد لطفى بدقة وفهم لكل التفاصيل الدقيقة .. حتى اطمأن لطفى تماما ..
وكان الجو كله يوحى بالأمان .. فالتليفون الذى يدق فى كل لحظة والفراش فى زيه المزركش .. والسكرتيرات الجميلات .. والشقة الفخمة والخرائط .. والرسومات .. وجهاز الشركة من مهندسين ومقاولين .. كل ذلك ضمان للطفى تماما ..
ولكى يكون أكثر اطمئنانا .. جعله السكرتير يفكر لمدة ثلاثة أيام قبل أى ارتباط مع الشركة ..
ولكنه بعد أن خرج إلى الشارع .. أخذت الهواجس .. تزحف إلى رأسه بسبب ما حدث له مع عبد الحميد .. وكان يتساءل :
ـ وما هو الضمان .. ولماذا .. لاتسرقنى الشركة كما سرقنى عبد الحميد .. ولماذا لاتفلس الشركة ..
وكان يحدث أصحابه بخواطره .. ومنهم من طمأنه .. ومنهم من جعله يتوجس ..
وبرغم هذا فإنه وجد نفسه يندفع إلى الشركة فى اليوم الثالث .. ويوقع العقد مع الشركة وهو منفعل ويدفع لها .. أول قسط ..
وظل من تلك اللحظة يتردد على مكتب الشركة .. والأحلام تطوف برأسه بصورة أكثر بهجة ..
وأخذت الأحلام تختفى عندما أحس بأنهم يماطلونه وأنه حتى هذه الساعة لم يشاهد أكثر من موقع الأرض على خريطة معلقة فى جدار ..
وتيقن بعد ثلاث سنوات مرت فى عذاب .. وصعد فى خلالها سلالم الشركة ونزل منها .. مائة مرة .. أنه وقع فى شرك عصابة من المحتالين ..
وتلقى الصدمة بالحسرة الطبيعية التى تحز فى قلب الإنسان الطيب .. وترك الأمر لله ..
ثم انصرف إلى مشاغل الأسرة والحياة .. ونسى المنزل ..
*** 
ومرت السنوات .. وكان قد بلغ من العمر عتيا .. وأحس بدبيب الشيخوخة فى جسمه .. وحن مرة أخرى .. إلى بيت صغير .. يترك فيه أولاده قبل أن يموت .. بيت يأويهم ويعصمهم من التشرد .. ومن قسوة الحياة ..
وسمع من زملائه عن الجمعبات التعاونية للمساكن .. وسمع أن اشتراكها بسيط .. جنيهان لا أكثر ..
وأخذ يبحث عن الجمعية التى تناسبه وتوافق رغباته .. ووفق إلى جمعية اطمأن إلى مؤسسيها تماما وسدد جنيهين رسم الاشتراك وأصبح عضوا .. وبعد شهور قليلة .. جاءه كتاب من الجمعية ينبئه بأن اسمه أخرج فى الاقتراع كأول عشرة من الأعضاء ستبنى مساكنهم فى الحال وعليه أن يدفع 100 جنيه للجمعية فى بحر شهر وإلا سيسقط حقه .. وينتظر الاقتراع التالى .. وطار من الفرح واستطاع بعد جهد أن يقترض هذا المبلغ .. ووضعه فى جيبه وسار مع صديق وقلبه يفيض بالحرارة إلى مركز الجمعية ..
وكان المكتب .. يفتح بعد الظهر فى الساعة الخامسة .. وبقى على ميعاده نصف ساعة .. فسار لطفى مع صاحبه فى قلب القاهرة يستعرضان واجهات الحوانيت حتى يحل الموعد ..
ومن شارع شريف انحرفا إلى شارع قصر النيل ..
ووقف لطفى .. يتأمل واجهة محل تعرض لعبا للأطفال وتقدم عنه صديقه ماهر بضعة خطوات ثم وقف ينتظره هناك عند ميدان مصطفى كامل .. وغاب لطفى عن بصره فى زحمة الناس ..
ثم رآه ماهر قادما من بعيد وهو يلهث وعلى وجهه فرحة كبرى .. وفى يده ساعة جديدة ..
وسأله ماهر :
ـ ما هذا ..؟
ـ ساعة ذهبية اشتريتها من شخص فى الطريق .. لقطة ..
ـ لقطة .. بكم ..؟
ـ بخمسة عشر جنيها .. ولكنها تساوى خمسين ..
ـ بخمسة عشر .. من الطريق .. ما هى ماركتها ..؟
ـ أنظر ..
وتناول ماهر الساعة .. وفحصها فوجدها لاتحمل ماركة معروفة .. وليست من الذهب أو الفضة .. وإنما من الصفيح المطلى .. ولا تساوى أكثر من جنيهين ..
وسأله بغيظ :
ـ أين البائع ..؟
ـ مضى فى الطريق .. هناك ..
ـ أسرع معى ..
وجذبه ماهر بعنف من ذراعه وانطلقا يبحثان عن هذا المحتال فى المنطقة فلم يعثرا عليه ..
وكان الشىء الذى يحير ماهر ويجعله فى عجب ..
كيف .. وقع هذا المحتال على لطفى واختاره وحده فى لحظة خاطفة من بين مئات الناس الذين فى الشارع ..!




ــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . المساء بالعدد 1348 بتاريخ 1/7/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ


 

   
الحبل

كان شعبان بناء بارعا .. وكان مشهورا بين أهل صنعته ومعروفا عند كل المقاولين .. فى مدينة القاهرة .. وفى الفترة التى أعقبت الحرب الثانية ونشطت فيها عملية البناء فى العاصمة ارتفع أجره إلى ثلاثة أضعاف ويزيد ..
وكان يسكن فى بيت قديم بحى الخليفة بناه جده للأسرة .. ويعيش مع زوجته وأولاده الأربعة عيش الكفاف .. ولكن فى سعادة تامة واستطاع فى مدى سنوات قليلة أن يقتصد مبلغا لابأس به .. وفكر فى أن يوسع رزقه .. وكان نشطا وله خبرة بكل أعمال البناء وما يتصل بها .. فاشتغل مقاولا للبناء وابتدأ بالأعمال الصغيرة ..
ثم أنشأ مصنعا صغيرا للبلاط ليسد حاجته فى العمل ويستغنى عن شراء البلاط من الآخرين ودار المصنع وأصبح يبيع الزائد منه .. ونجحت أعماله ولما بلغ شعبان الأربعين من عمره .. كان قد جمع ثروة ..
وظل فى بيته القديم لم يبدله .. ولم يغير طريقة معيشته .. وكان من عادته أن يشرب الشاى .. فى قهوة الانشراح بشارع محمد على .. ثم يذهب توا إلى بيته .. كان يحب البيت ويحب أولاده وزوجته ..
وكان البيت مظلما متداعيا وجدرانه متآكلة ورائحة العفونة تنبعث من الجدران ولكنه لم يكن يحس مطلقا بكل هذه الأشياء المقبضة للنفس ..
وكان أميا لايقرأ ولا يكتب فاستعان بكاتب يمسك حساب العمال .. وكان هذا الكاتب فى الواقع ساعده الأيمن .. وكرجل يظل طوال النهار يدور كالنحلة .. ويعمل من مطلع الشمس إلى الغروب دون توقف ودون أن يفكر فى الراحة فإنه كان يجد نفسه فى الساعة الثامنة مساء فى غاية من التعب والإرهاق البدنى ..
ولهذا كان بعد أن يشرب الشاى ويصفى أعماله فى القهوة يذهب توا إلى البيت يتعشى وينام مبكرا ليصحو فى الفجر ساعيا إلى عمله ..
وحدث فى مساء يوم من أيام السبت .. وكان فى الدور الرابع يتفقد عمارة جديدة بناها فى ضاحية مصر الجديدة .. أن سقطت من يده قطعة حديد على أحد العمال وكان نائما بجوار الجدار فصرعته فى الحال وذعر شعبان وطار قلبه من الرعب ولكن عبد الموجود رئيس الفعلة هون عليه الأمر .. وقال له :
ـ إن عطية القتيل .. شاب غريب .. ولا يعرف أحد أن له أهلا وقد لقى حتفه بضربة من القدر .. وكما يضل كلب فى الصحراء سيضل عطية .. ومن الغد .. سنقول لمن يسأل عنه أنه سافر .. ومن يبحث عن القشة فى المحيط .. ؟
وفى الليل سأطويه فى هذا الشوال وأدفنه فى الصحراء .. ولن يعثروا حتى على عظامه .. لو بحثوا عنه مائة عام ..
وكأنما فك عبد الموجود الحبل من عنق شعبان وخلعه من المشنقة .. فقد استراح لهذا الخاطر الشيطانى وترك العمارة .. ورجع فى الليل فوجد أن الدم طوته الرمال ..
وفى اليوم التالى لم يذهب إلى العمارة .. ولكن فى اليوم الثالث وجد أن الحبل يجذبه إلى هناك ..
وعندما دخل تحت التندة أظلمت عيناه .. واشتدت ضربات قلبه وأحس بمثل السكين الحادة تمزق أعصابه ..
وكانت الشمس طالعة .. والعمال يجرون على السقالات يحملون الزلط والخلطة وهم يغنون .. وهم بأن يستوقف أحدهم ويسأله :
ـ أين ذهب عطية ..؟
ولكن فمه ارتعش كالمشلول وأطرق بعدها إلى الأرض ..
ولاحظت زوجته اضطرابه وتغير حاله .. فسألته ذات ليلة ..
ـ مالك يا معلم ..؟
فلم يرد عليها .. وأحس بأنه يود أن يضربها لهذا السؤال .. وكرهها .. وأصبح لايطيق عشرتها .. وأخذ يهرب من البيت فى الليل والنهار ..
وكان يكثر من الجلوس فى القهوة .. إلى الساعات الأخيرة من الليل .. وذات ليلة أخذه مهندس المبانى فى عربته إلى ملهى بشارع عماد الدين وشاهد الرقص .. وشرب شعبان الخمر لأول مرة ..
وأحس بالدفء وبالنشوة .. وبأنه يغيب عن وعيه وعن التفكير فيما يقلقه ..
وفى الصباح أحس بالصداع الشديد .. ولكنه منذ تلك الليلة لم ينقطع عن الشراب وعن التردد على الملاهى ..
وأخذ كلما أحس بالقلق والإرهاق العصبى .. يذهب إلى حانة هادئة اختارها لنفسه وهناك يسكر ويغيب عن وعيه .. وأصبحت حياته تمضى على هذا المنوال ..
*** 
وذات ليلة دخل عليه أصغر أولاده الحانة .. فصعق لما رآه ..
ـ مين جابك ..؟
ـ أختى سلوى ..
ـ وفين هيه ..؟
ـ واقفة بره ..
ـ وعاوزين إيه ..؟
ـ ماما بعتانة علشان نأخذ منك فلوس .. عاوزين نشترى هدوم العيد ..
ـ طيب روح اركب أنت واختك الترمواى حالا .. وأنا جاى وراكم ..
فاغتاظ لأن زوجته لم تستطع أن تصبر حتى تلقاه فى الصباح .. ولما دخل عليها البيت فى أخريات الليل استقبلها بالضرب الموجع ..
***
وشاهد فى ليلة من ليالى الشتاء امرأة جالسة فى ركن وحدها .. وكانت ساكنة ساجية الطرف حلوة ولايبدو عليها أنها من نساء الليل .. فأخذ بجمالها ..
وبعد ساعة كان يجلس بجوارها يحادثها ويسرى عن نفسه .. ولما ودعها فى آخر الليل .. قدر أن القدر كف عن تعذيبه .. وأن قنديلا من السماء تدلى إليه لينير ظلمات حياته ..
وفى اليوم التالى أسرع إليها وهو من فرط العشق يود أن يقبل أقدامها .. وعرض عليها الزواج فى الحال .. وفوجئت بالعرض .. ولكنها قبلت .. فقد كانت تعيش فى خضم ووجدت من يرسو بها على الشاطىء .. وهو على أى حال رجل ترتكز عليه ومهما تكن مساوئه فهو رجل يطلب الحلال .. ولهذا لم تسأل عنه ولم تستقص ..
 وكانت فى بداية المنزلق وقد وجدت من ينتشلها بسرعة من الوحل فكيف ترفض .. وأسكنها فى شقة حديثة بحدائق القبة .. وخصص نفسه لكل رغباتها ..
ولم تكن تطلب شيئا أكثر من هذا الاستقرار ..
وكان يحبها .. ويتصور .. أن أبواب الرزق كلها مفتوحة على وجهها المشرق ..
فغمرها بالحلى والجواهر .. وكان يعجب إذ على الرغم من هذا كله لاحظ أن مسحة من الحزن لاتزال باقية علىوجهها .. كان هناك مايشغل بالها ..
وعرفت من طباعه أنه يكره أن تخرج من البيت .. فى غيابه .. ولايحب أن تستقبل أحدا من أصحابه أو عملائه فى البيت مادام هو غير موجود ..
وكانت بطبعها لاتحب أن تخرج من البيت إلا فى صحبته .. ولا تحب الاختلاط بأحد .. وسرت من حياتها فى هذا المكان وبعدها عن المشاكل ..
وحاولت أن تنسى الماضى كله بكل مافيه من عذاب ..
وكان شعبان يحبها .. وعرفت أنه متزوج وعنده أولاد .. ولم يكن هذا يضيرها .. وقد رأته بكليته يتحول إليها .. وعجبت لأنه لم يسألها عن أهلها أو يحاول أن يعرف أى شىء عنها  .. وعن ماضيها .. وقدرت أنه كان يتصورها راقصة .. ثم تركت الرقص وجاءت لتعيش معه كزوجة .. وكانت زوجة وفية ..
ففى الشهور الأولى من زواجهما لم يلاحظ عليها أى عوج .. ولم يشك قط فى سلوكها فاطمأن إليها تماما ..
وكان يذهب إلى زوجته الأولى كل يوم جمعة .. ويترك سميرة مع الخادمة وهو فى غاية الاطمئنان ..
***
وفى مساء يوم من أيام الجمعة .. تأخر فى عمله فى مصر الجديدة .. فرأى أن يقضى الليلة مع سميرة .. وفى الصباح يذهب عند أولاده ..
وصعد السلم على مهل وسمع وهو صاعد .. صوت زوجته وكان باب شقته مفتوحا فوصل إلى سمعه صوتها بوضوح .. ونشر أذنيه وسمعها تقول .. بصوت كله حنان تعال الجمعة الجاية .. بدرى شوية يا حبيبى .. علشان نقعد مع بعض مدة طويلة ..
وصعد شعبان حابسا صوت أقدامه حتى وقف على بسطة الشقة ورأى من فرجة الباب زوجته تطوق الشاب وتحتضنه .. ثم تركته يذهب .. وفى عينيها نظرات الهيام ..
وصعد شعبان على مهل إلى الدور العلوى حتى لاتقع عليه عين زوجته .. وانزوى .. حتى خرج الشاب مسرعا .. ودخل عليها شعبان وفوجئت به سميرة على غير انتظار فابيض وجهها .. وصاح فى جنون ..
ـ مين اللى كان عندك ياعاهرة ..؟
وقالت شيئا لم يسمعه فى ثورته .. وازداد هياجه .. ودخل المطبخ ثم عاد يحمل سكينا ولما رأت السكين صرخت وجرت إلى الخارج وعلى السلم طعنها فى مقتل .. فسقطت وهى تقول هامسة :
ـ دا ابنى منير .. وكان جاى فى أجازة .. يوم .. من البحرية .. جاى يشوفنى .. حاموت .. حامـ...
وسقطت السكين من يده .. وسقط رأسها على الأرض .. وبرك على الأرض .. بجانبها .. ثم نظر إلى سقف السلم فرأى حبلا يتدلى من عرق الجدار ..
وعجب لأنه لم ير هذا الحبل من قبل .. ولم يعرف الغرض من وضعه فى هذا المكان ..
وهبت الريح بشدة فأخذ الحبل يهتز فوق رأسه .. ولم يتحرك شعبان من مكانه .. حتى عندما سمع أرجل رجال البوليس على السلم ..








ـــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بعددها رقم 698 بتاريخ 12/5/1958 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ 










زكى بك

تقع قهوة " ديانا " فى قلب المدينة وفى مكان ينبض بالحياة والحركة .. فهى قريبة من شارع قصر النيل .. من حى البنوك والمال فى المدينة .. ولهذا تزدحم دائما بروادها .. وترى موائدها وكراسيها مشغولة فى أية ساعة من النهار والليل ..
وفى هذا المقهى يجلس الكسالى والعاطلون ومحترفو القمار .. ولاعبو النرد .. ولاعبو السباق الذين يتراهنون على الخيل فى الميدان ويخسرون ويربحون وهم جلوس على الكراسى .. فما شاهدوا حصانا يجرى فى حلبة ولا ظله على الأرض .. ثم السماسرة .. سماسرة السيارات وسماسرة العقارات .. وهؤلاء يتجمعون كالنحل فى المقهى من الساعة السابعة صباحا ..
وتسمع وأنت جالس حوارهم وصفقاتهم وأرباحهم .. وهم يتهربون فى المقهى من الضريبة .. ولكنهم يلعبون القمار ويخسرون .. يخسرون كل ماجمعوه .. وكل ماربحوه ..
والحياة تقتص من لصوصها ..!!
***
وفى ساعة من ساعات الأصيل جلس جعفر على غير عادة فى هذه القهوة .. فقد كان ينتظر صديقا ليصحبه إلى شركة من شركات التأمين فى العمارة نفسها .. وشعر جعفر بعد خمس دقائق من جلوسه بكل ماحوله من حركات صاخبة .. وأحس بأنه غريب فى هذا المكان .. وكان يجلس إلى مائدة صغيرة .. والموائد القريبة منه والبعيدة عنه مشغولة كلها .. فجاء رجل أنيق المظهر متوسط العمر طويل القامة أبيض الوجه .. واستأذن فى الجلوس بجانبه .. فأذن له جعفر وجلس الرجل بعد أن قرب الكرسى من المائدة فى ارستقراطية ظاهرة .. وصفق للجرسون ..
ولما جاءت القهوة أخرج علبة سجائر أنيقة وقدم العلبة لجعفر ..
ـ متشكر .. لا أدخن ..
ـ هذه نعمة من الله ..
وأشعل سيجارة لنفسه وهو يديم النظر إلى جعفر .. ثم تحول عنه بسرعة بعد أن لمح من بعيد رجلا يمر فى عرض الطريق ..
وصاح :
ـ مسيو البير ..
فتوقف هذا والتفت واتجه إلى مصدر الصوت .. حتى اقترب منه ..
وتمتم مسيو البير ..
ـ آه زكى بك ..
ـ أجل ياحبيبى .. أين أنت ..؟ إننى أبحث عنك من زمان طويل ..
ـ إن كنت تريدنى .. لأجل الفيلا .. التى فى الدقى .. فقد بعتها أمس .. اشتراها نعمان بك مستشار على المعاش .. ودفع لصاحبها تسعة آلف ..
ـ يا حبيبى .. أقعد .. وبعدين نتكلم ..
ـ مشغول .. وحياتك .. عندى شغل ..
ـ يا شيخ أقعد نلعب عشرة طاولة .. ربع ساعة فقط ..
وجلس مسيو البير بعد الحاح شديد من زكى بك ..!!
***
وأخذا يلعبان النرد .. وكانا فى خلال اللعب يتحدثان .. وتطور الحديث من الكلام العادى فى مختلف الشئون إلى عقد صفقة ..
وفهم جعفر الجالس قريبا منهما وقد أصبح صفرا على الشمال بعد أن احتلا مائدته ودفعاه إلى بعيد .. فهم أن الرجل الأنيق والأكثر براعة فى اللعب والحديث من كبار الأغنياء ويدعى زكى وهو بك طبعا ..!!
وأن مسيو البير .. سمسار .. سمسار عقارات ..
وكانت الصفقة على بيع منزل فى ضاحية الزيتون .. وتسمع جعفر إلى مايدور بين الرجلين من حديث عن هذا المنزل .. وكان الحديث يدور خلال اللعب وفى معمعاته ..
ـ وهل كشفت فى المساحة ..؟
ـ طبعا .. وتستطيع أن تذهب وتكشف بنفسك ..
ـ خال من الديون ..؟
ـ ليس عليه يوم واحد ..
ـ وهل تحققت من الورثة ..؟
ـ يا عزيزى .. كما قلت لك .. لم يرث إسماعيل باشا سوى ابنته قدرية هذه .. وسنطلب إشهادا شرعيا من المحكمة .. فكن مطمئنا .. وهذا كله أقوم أنا بعمله قبل أن تدفع مليما واحدا ..
ـ ومتى نرى المنزل ..؟
ـ سأمر عليك غدا ..هنا .. فى الساعة التاسعة صباحا ..
ـ والواجهة بحرية .. وعلى ناصية ..
ـ ياعزيزى .. المنزل .. وسط حديقة فيحاء .. غناء .. وخال من جميع الجهات ..
ـ وهل يمكن أن تجعلها تتنازل إلى عشرة آلاف ..؟
ـ هذا علىَّ .. فقط جهز المنزل ..
ـ جاهز .. يا حبيبى .. جاهز ..
ـ هذه خدمة لك يا زكى بك .. أنا أريد أن أخدمك .. لتعرفنى .. وأنا كذلك أريد أن أعرفك .. أريد أن أعرف رجلا عظيما مثلك ..!! وأضمه إلى قائمة عملائى ..
ـ متشكر .. متشكر ..
ـ دش ..
ـ أرأيت ..؟ عال يا مسيو البير .. وكسبان .. وعلى القهوة والطاولة ..
وطويت الطاولة ..
ونهض مسيو البير .. وقال وهو يشد على يد زكى بك :
ـ غدا .. الساعة التاسعة .. لاتنس ..
ومضى البير بين الموائد وظل زكى يشيعه بنظره حتى ابتلعه الشارع ..
*** 
وجلس زكى بك بعد أن تركه مسيو البير منتفخ الأوداج شامخ الأنف .. ثم تحول بحركة مسرحية بارعة إلى جعفر ..
وقال له فى تودد :
لاتؤاخذنى .. وقد شغلنا مائدتك .. لاتؤاخذنى ..
فطيب جعفر خاطره ..
وجلسا يتحدثان فى مختلف الشئون كأنهما صديقان قديمان .. ولاحظ جعفر أن زكى بك بارع فى الحديث .. ينمق الكلام ويدور به على لسانه فى ارستقراطية طبيعية ..!
ولاحظ زكى بك أن جعفر خجول .. ويجلس وحيدا .. وأنه أتى إلى هذه القهوة لأول مرة فى حياته .. فود ألا تفلت هذه الفرصة ..
واقترب منه جدا وهمس :
ـ تسمح .. بشلن فكة ..
ووضع جعفر يده فى جيبه وأخرج الشلن وأعطاه لزكى بك وهو يذوب خجلا .. كأنه هو الذى يستجدى ..!!




ــــــــــــــــــــــــــ
 نشرت القصة فى ص . الجمهورية بالعدد 283 بتاريخ 20/9/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــــ





دماء على الرمال


     بعد الساعة العاشرة صباحا .. وفى اليوم الأخير من أكتوبر كنت أبحث فى مكتبة الفنون بحى قصر النيل عن لوحة نادرة للرسام جويا .. لألهب بها مشاعرى فى فترة المعركة ..
     وكانت حرب السويس مشتعلة على أشدها وطائرات الأعداء تلقى علينا القنابل فى كل ساعة .. والجمهور يقابل هذه الغارات ببسالة عديمة النظير ..
     كان يسير فى حياته العادية .. كما كان قبل الحرب دون رهبة لم يتغير شىء فيه ولم يتبدل ..
     وكان يفلت منه الزمام فقط فى اللحظات المثيرة عندما تحترق طائرة وتهوى .. أو يسقط طيار بالمظلة .. عندئذ ترى الجموع تنطلق وتتجمع كالروافد من الشوارع الجانبية كلها لتصب فى مكان الحادث هادرة صاخبة كالبحر الهائج الذى لا يرده شىء ..
     وكانت هناك غارة وأنا فى الطريق إلى المكتبة فلما بلغتها كان الخواجه البير صاحب المكتبة يتحدث عن طيار فرنسى سقط عند مصلحة التـليفونات وحـاصره الجمهور .. ليمنـع عنـه الاعتداء حتى يصل
 البوليس ..
     ونهض معى البير يرينى مكان اللوحات فى الداخل ثم رجع إلى مكانه وسمعته بعد دقائق يتحدث مع سيدة بالفرنسية ويقول لها بصوته الخالى من كل انفعال :
     ـ آسف يا سيدتى .. فأنا لا أشترى شيئا الآن .. عندى الكتب مكدسة .. كما ترين ..
     فتلفت فوجدت سيدة فى الخامسة والعشرين من عمرها متوسطة الطول .. واقفة أمامه بجانب المدخل وبيدها ربطة صغيرة من الكتب ..
     وكانت تعطينى جانبا من قوامها فلم أستطع أن أتبين منها أكثر من شعرها .. وأذنها الصغيرة والصدار الذى يطوى صدرها .. وكان الجزء الباقى من جسمها يغطيه حاجز المكتبة ..
     وظلت السيدة متحيرة نصف دقيقة .. ثم استدارت نصف دورة .. وخرجت من وراء البنك .. وفى هذه اللحظة بصرت بى ..
     وكانت مفاجأة تامة لها فإنها لم تكن تتوقع وجود أحد اطلاقا فى داخل المكتبة .. وفى تلك اللحظة اكتسى وجهها بتعبير هزنى .. لم أر هذا التعبير على وجه أنثى من قبل .. كان التعبير يجمع معانى الضراعة والسخط .. ولعنة الأيام ثم شيئا يتجمع ولا تتحرك به الشفتان .. وكانت العينان تلمعان دائما برغم الأسى الذى على الشفة ..
     وتحولت إلى صاحب المكتبة مرة أخرى وأخذت تحادثة لمدة دقيقتين ..
     وكنت أعرف أن البير فيه مكر الثعالب .. وهو يراوغ السيدة .. ويرفض الشراء منها الآن ليجعلها تعود إليه مرة أخرى وتبيع بأى ثمن ..
     ولم تكن الكتب أكثر من خمس روايات بالفرنسية من طبعات رخيصة .. ولا تساوى أكثر من خمسين قرشا .. ولكن ألبير الماكر لايدع أية فرصة تفلت من يديه ..
     وكنت أود أن أتقدم إلى هذه السيدة .. وأبدى لها رغبتى فى شراء هذه الكتب ولكننى قدرت أنها لا تعرف بأننى سمعت ما دار بينها وبين صاحب المكتبة من حديث .. وكنت فى الوقت نفسه لا أود أن أحرجها .. مرة أخرى وأذلها .. وأشعرها بأنى أعرف أنها فى حاجة إلى مثل هذه القروش ..
     وابتعدت عنها أكثر وأكثر .. حتى لا تشعر بالخجل إن عاودت الحديث مع البير .. ودخلت فى جوف المكتبة إلى نهاية الممر المظلم ..
     وعادت الصفارات تزعق مرة أخرى وأنا أنظر فى صفوف الكتب التى أمامى وأفكر فى أن الذى اخترع آلات الدمار التى تلقى علينا الآن على شكل قنابل ومفرقعات .. هو عقل بشرى متفتح دون شك .. وكان غرضه الأول هو خير الإنسانية .. ولكن الشياطين هم الذين حولوا هذه الأشياء إلى آلات للدمار تسحق الإنسان نفسه .. الذى اخترعها وقتل الروح الطيبة من البشر فيا للعجب ويا لذل الإنسان عندما يسيطر الشياطين على الموقف ويصبح فى يدهم الزمام ..
     والتقطت شيئا من على الرف .. رباعيات الخيام لفيتز جيرالد .. وكل شىء هادىء فى الميدان لماريا ريمارك .. وكأنما كنت أود أن أجمع بين أعلا مراحل الشعر والنثر فى آن .. وأمسكت بالكتابين مع اللوحات الأربع التى اخترتها ..
     وخرجت من الممر المظلم مرة أخرى إلى الرجل السمين الجالس إلى المكتب فى استرخاء وخمول .. وراعنى أننى وجدت السيدة التى شاهدتها من قبل لاتزال هناك .. وكانت قد وضعت الكتب جانبا .. واعتمدت براحتها على حافة المكتب .. ووقفت أمام ذلك البدين المكروش .. تحادثه .. ولعلها تتضرع إليه .. ولما اقتربت منهما سمعته يقول :
     ـ يمكن أن نسأل الأستاذ ..
     فقلت له :
     ـ عن أى شىء ..؟
     فقال بهدوء :
     السيدة تسأل .. إذا كان يجب على كل شخص يقيم فى بنسيون أن يتقدم إلى مركز البوليس الواقع فى دائرته مسكنه ..؟
     ـ أظن هذا مطلوبا إذا كان الشخص من رعايا الأعداء ..
     ـ ومتى يتقدم ..؟
     ـ فى مدة 24 ساعة ..
     ولم أكن على يقين من هذا الكلام ولكننى قرأت شيئا أشبه بهذا فى إحدى الصحف ..
     وكانت السيدة قد استدارت إلىَّ وواجهتنى .. فرأيتها صغيرة دقيقة التقاطيع جذابة الملامح بوجه أبيض ناصع البياض وعينين دعجاوين .. وكانت الرموش غزيرة والحواجب أشد سوادا من الشعر ..
     وكان خدها يرف ويتوهج مع الضوء الساقط من شراعة الباب ..
     وكانت عيناها من الرقة والنعومة والصفاء .. بحيث لم تصمدا أمام نظراتى فأطرقت برأسها أكثر من مرة وهى تحادثنى .. وكان يهمنى أن أعرف جنسيتها وما يشغل بالها خصوصا وأن السلطات لم تتخذ أى اجراء إلا مع الخطرين على الأمن ..
     فحدثتنى بأنها تقيم مع عائلة أجنبية .. وقد طلبت منها هذه العائلة أن تتقدم لمركز البوليس بأوراقها .. وإلا فلن يقبلوها عندهم ..
     فدخل فى حسبانى أنها يهودية وانتابنى شعور من الكراهية فى هذه اللحظة .. لم أستطع دفعه ولا مقاومته برغم جمال هذه السيدة الصارخ .. فأقصرت معها فى الحديث .. ودفعت ثمن الأشياء التى أخذتها لصاحب المكتبة .. وخرجت إلى الطريق .. وبعد خطوات وجدت هذه السيدة ورائى .. وكانت الطائرات المغيرة قد رجعت واشتد ضرب المدافع المضادة وخشيت أن تسقط علىَّ بعض القذائف .. فاحتميت تحت باكيه فى الشارع .. وجاءت السيدة وبيدها حزمة من الكتب فوقفت بجوارى .. فأخذتنى الشفقة عليها مرة أخرى ..
     وسألتها بالفرنسية :
     ـ هل أنت يهودية ..؟
     ـ أبدا .. ان كل الناس يتصورون هذا .. أية مصيبة .. وأى عذاب ..
     وأرتنى صورتها على جواز السفر .. وبجانبها شخص آخر ولا شك أنه زوجها ..
     وكانت مصرية صميمة واسمها جيهان .. وسألتنى بعد أن رأتنى أطمئن :
     ـ ولماذا تصورت أننى يهودية .. هل شكلى يدل على ذلك ..؟
     ـ إلى حد كبير .. وفوق هذا فأنت مذعورة كاليهود تماما ..!
     ـ إن هذا من سوء حظى وأنا خائفة لأنى وحيدة فى مدينة كبيرة ..
     وسألتها :
     ـ ولماذا تقيمين مع عائلة أجنبية .. ما دمت مصرية ..؟
     ـ اننى من الإسكندرية .. وجئت إلى القاهرة منذ اسبوع .. وكانت صاحبة لى هناك قد دلتنى على هذا ( البنسيون ) .. وطبعا اخترته لأنى لا أعرف القاهرة وهذه أول مرة أضع قدمى فيها ..
     ـ وقت غير مناسب للفسحة ..
     ـ اننى لم آت للفسحة .. جئت أبحث عن عمل ..
     ـ ووفقت ..؟
     ـ أبدا ..
     ـ والإنسان الذى رأيت صورته الآن فى الجواز ..؟
     ـ لقد تركته .. انه متوحش ..
     قالت هذا بمرارة وغضب .. واكتسى وجهها باللون الأخاذ الذى جذبنى إليها وهز مشاعرى .. اتخذ التعبير الأول الذى أسرنى .. التعبير الذى لم أره على وجه أنثى من قبل ..
     وسألتها :
     ـ بكم كنت تودين بيع هذه الكتب ..؟
     ـ بثلاثين قرشا .. بأربعين .. أى شىء .. اننى قرأتها ولم أعد فى حاجة إليها ..
     ـ سأدفع لك فيها ثلاثة جنيهات .. بشرط أن آخذ معها شيئا آخر ..
     فاحمر وجهها جدا وقالت وهى تحملق فى وجهى بذعر :
     ـ ليس معى شىء سواها ..
     ـ أننى سآخذ شيئا بسيطا .. صورة لك ..
     ـ صورة فوتوغرافية ..؟ ليس عندى صور ..
     ـ صورة من رسم يدى ..
     ـ حضرتك رسام ..؟
     ـ أجل ..
     وسهمت .. ونظرت إلى الشارع وإلى الناس .. وإلى حركة المرور والمواصلات بعد الغارة ..
     وسألتنى :
     ـ وأين ترسم ..؟
     ـ فى مكتبى ..
     ـ بعيد ..؟
     ـ أبدا .. أنه على مسيرة نصف ساعة ..
     ـ أرجو أن تذهب معى أولا إلى مركز البوليس .. لأننى لا أعرف أحدا .. وخائفة .. ان الذهاب إلى القسم شىء مروع ..   
     ـ أنت مصرية .. ولا داعى لأن تذهبى إلى القسم ولا تفكرى فى شىء من هذا ولا تخافى أبدا ..
     ـ لقد كنت طائشة .. عندما أسرعت وركبت القطار وتركت بيتى .. كنت فى حالة غضب .. كنت مجنونة فى الواقع ..
     ـ سأرجعك إلى بيتك .. ولا تشغلى بالك بشىء الآن .. ولا تتأسفى .. سأصلحك مع زوجك ..
     ـ وهل تعرفه ..؟
     ـ وهل من الضرورى أن أعرفه ..؟
     ـ أبدا .. اننى مخطئة ..
     واكتسى وجهها بالتعبير الذى أسرنى مرة أخرى واخترقنا حى معروف إلى شارع رمسيس .. وكانت تسير بجوارى مستسلمة ..
     وعندما مر بجوارنا الأتوبيس الذاهب إلى عين شمس أركبتها معى .. فركبت وهى صامتة .. كان الجوع والوحدة ووجودها فى مدينة كبيرة لا تعرف فيها أحدا .. كل هذه الأشياء قد حطمتها تماما ..
     وفى السيارة لم نتحدث إلا قليلا .. كان حديثها بالعربية فيه لكنة الأجانب .. وخشيت إن تحدثنا بالفرنسية أن يتصور الناس أنها فرنسية فى جو كان مشحونا بالكراهية للفرنسيين .. فجلسنا صامتين وكنا نستمع إلى أحاديث الناس عن الحرب دون أن نعلق عليها .. وكان فى السيارة راديو .. يذيع الأخبار فى كل لحظة ..
     وكان الركاب يتحدثون عن طائرة سقطت فى الصباح بجوار كنيسة سانت فاطيما بمصر الجديدة .. وكانت الجموع تود أن تفتك بالطيار الذى هبط بالمظلة قريبا من مكان الطائرة التى احترقت ولكنها ضبطت أعصابها وسلمته حيا لرجال الشرطة ..
     كما تحدث الركاب عما قليل عن طائرة سقطت قرب المرج وأخرى فى امبابة .. وطيار سقط .. قريبا من سوق التوفيقية ..
     وتحدثوا عن أهل بور سعيد ومقاومتهم الباسلة للعدوان ..
     وكان كل راكب يتحدث عن الحرب كأنه اشترك فيها فعلا أو كأن الميدان قد انتقل إلى الشارع الذى يسكن فيه ..
     وهبطنا من السيارة قرب البيت ودفعت الباب وأدخلت السيدة جيهان أمامى .. وأغلقت وراءها باب الحديقة الصغيرة ثم دلفنا مسرعين إلى الداخل .. وأغلقت الباب ورائى بالمفتاح ..
     ولاحظت السيدة جيهان أن البيت ليس فيه غيرى ..
     والواقع أنه كان هناك بستانى يمر على الحديقة من حين لآخر .. وفكرت أن أستغنى عن خدماته فى فترة وجود جيهان حتى لا يراها .. ويتحدث عنها للجيران ..
     وكانت هناك خادمة عجوز تأتى لتنظيف البيت فى كل صباح .. ثم تذهب ..
     وكنت أتغذى فى مطعم بالقاهرة وأتعشى وأفطر فى البيت .. وانجز الأعمال الفنية التى تتطلب من الجهد الكبير فى الليل .. وأحيانا أسهر إلى الصباح ..
     وكانت بهية الخادمة العجوز .. قد رأت عندى من قبل فتيات فى المرسم .. ولكننى عزمت على أن أقول لها عن جيهان أنها قريبتى .. قدمت من بور سعيد لتكون فى رعايتى بعد أن مات والدها فى الحرب ..
     والواقع أن جيهان شعرت بالراحة عندما لم تجد أحدا فى البيت ..
     وتغدينا من الطعام الذى كنت أضعه فى الثلاجة ..
     وتركتها تستريح فى غرفة بجانب المرسم .. ونامت إلى العصر نوما عميقا .. وبدا لى أنها كانت متعبة جدا .. فما وضعت جسمها على الفراش حتى استغرقت فى النوم ..
     وكنت قد وضعت لها قميصا بجانب الفراش ولكنها لم تلبسه وبقيت فى ملابسها ولم تخلع سوى الحذاء ..
     وبعد أن استراحت .. كانت الشمس لاتزال طالعة .. فأبديت لها رغبتى فى أن نبدأ الرسم من الآن .. وأجلستها فى المرسم بكامل ملابسها وأخذت أرسمها حتى خيم الظلام .. وكانت ساكنة وكنت أنظر إلى وجهها الفاتن باعجاب لا حد له .. وكانت تعابير وجهها ناطقة ..
     وكنت أدرك أننى عثرت على كنز ساقتنى إليه المصادفات وحدها .. وكنت أرسم وجهها بانفعال .. وضعت فيه روحى .. وكانت الفرشاة مطواعة .. وكنت بعد كل نصف ساعة أجعلها تستريح قليلا خمس دقائق أو أكثر من ذلك .. ثم أعود للعمل .. وكانت عيناها وشفتاها تلتمعان وخدها يتوهج .. تحت ضوء المصباح .. وكان يمكن أن تستمر هكذا إلى الصباح فى جلسة واحدة وأكون قد أكملت الصورة .. ولكن منعنا من الاستمرار فى العمل .. صفارة الانذار .. فأطفأت النور ..
     وجلست معها فى الظلام .. نتحدث .. ولم أتحرك ولم أقترب منها .. كنت أضع كل عواطف قلبى وحسى فى طرف فرشاتى .. ولا أحب أن أطفىء هذه الشعلة المتأججة فى نفسى بأية حركة وكان المجهول الذى فيها يقربنى إليها أكثر وأكثر فلم أكن أعرف الحقيقة تماما .. وكان يحيرنى أنها لاتستطيع أن تتحدث باللهجة المصرية الدارجة .. وكل حديثها معى بالفرنسية .. لأنها اعتادت أن تتحدث بها .. وتعلمت فى مدارس أجنبية داخلية ..
     وكان الظلام حولنا ثقيلا .. والمدافع تدوى بشدة .. وتحركنا إلى النافذة وجيهان بجانبى .. وكان رجال المقاومة الشعبية ببنادقهم وخوذاتهم يروحون ويغدون تحت البيت والمتاريس قائمة .. والخنادق الصغيرة محفورة فى الشارع وأكياس الرمل على النواصى وتحت الشجر .. وكمنت الدبابات الكبيرة والمدافع السريعة الطلقات وكمن رجال القناصة الذين سيتصيدون جنود المظلات ..
     وكان هناك سكون أرهبنى ومنعنى حتى من أن أشعل لنفسى سيجارة وظللنا فى هذا الصمت الأخرس لمدة ساعة كاملة .. والأنوار الكاشفة تلحس السماء .. وتضىء أعالى البيوت ..
     وكانت قوافل السيارات والدبابات تتحرك هناك قريبا منا فى الشارع الرئيسى متجهة إلى ميدان المعركة ..
     وكنت أعجب .. لانقلاب الحال فى الليل .. فإن كل شىء كان ينقلب فى الضاحية ويوحى بأننا فى قلب الميدان ..
     وسألتنى جيهان :
     ـ ان الرجال كلهم يعملون للحرب ويستعدون للمعركة .. فما الذى تعمله أنت ..؟
     ـ اننى أرسم اللوحات لأثير المشاعر ضد الأعداء وأبين فظاعتهم ووحشيتهم .. وسترين لوحة كبيرة ستوضع فى ميدان التحرير من عملى ..
     وابتسمت ..
     واشتدت الغارة .. واقتربت منا الطلقات فأغلقنا المصراع الخشبى .. وكانت جيهان تخشى أن تنام فى داخل الغرفة وحدها ..
     فحركت الكنبة ونمت عليها بجوار الباب كأنى حارس لها ..
***  
     ولم تكن تتصور أبدا أن يكون هذا الجمال على قيد خطوة منى ولا أقترب منه .. وأن آويها وأطعمها فى بيتى ولا آخذ منها الثمن .. ولذلك نظرت إلىَّ فى الصباح بامتنان ورضى .. واطمأنت تماما .. ولما جاءت الخادمة بهية حذرت جيهان من الاسترسال معها فى الحديث بتلك اللهجة التى فيها لكنة الأجانب .. لأن الخادمة بطبعها فضولية .. كما حذرتها من الظهور فى الشرفة والحديث مع الجيران .. لأن شكلها وحديثها يوحيان بأنها أجنبية وأننى لا أحب أن أظهر أمام الجيران بأنى آوى أجنبية .. فى بيتى فى هذه الظروف الدقيقة ..
     وخرجت لأتسوق بعض الأشياء .. ومر اليوم كله بسلام ..
     وفى ضحى اليوم التالى علمت من الخادمة بهية أن جميع الجيران يقولون عنى أن فى بيتى فتاة يهودية ..
     وتملكنى الغيظ واضطربت جدا .. ولكننى كتمت عواطفى وظهرت أمام جيهان كأنى ماسمعت شيئا .. ورأيت الناس وهم يعبرون فى الشارع يتطلعون إلينا .. ويلتصقون بالسور لينظروا إلى الداخل بفضول أزعجها ..
     ورأيت أن ننصرف إلى الداخل بعيدا عن الأنظار .. فأدخلتها المرسم وأخذت أشغل نفسى بالعمل .. ولاحظت أنها ساهمة ومتغيرة وحدثتنى بما سمعته من الخادمة بهية .. فقلت لها أن بهية فضولية جدا .. وكثيرا ما تكذب وأنها ربما نسجت خيوط هذه القصة .. لغرض فى نفسها فقالت لى أنها شاهدت بعينيها أكثر من شخص يتطلع إليها .. وفى عينيه نظرة كراهية أرعبتها ..
     وأخذت أبعد عن رأسها كل هذه الخواطر .. حتى أدركت أنها اقتنعت .. وتركتها بعد العمل تستريح ..
     وفى الليل تعشينا ونمنا ..
***  
     واستيقظت على طرق الباب .. وكانت الساعة قد جاوزت نصف الليل .. ولما فتحت الباب وجدت شخصا أعرفه من الجيران .. وجاء يحدثنى بما سمعه من الناس عن وجود أجنبية فى بيتى وأن ذلك سيعرضنى للمخاطر .. فأفهمته أنه مخطىء فى ظنه وأن هذه الفتاة مصرية وقريبتى أيضا .. وانصرف الرجل .. ونظرت إلى جيهان فوجدتها متيقظة وسامعه لما دار من حديث ..
     ولكن لما اقتربت منها تناومت .. وفى هدأة الفجر .. سمعت الباب الخارجى يفتح ويغلق فنهضت وأسرعت إلى فرشها فلم أجدها فيه فدفعت الباب الخارجى وأسرعت وراءها .. وسمعت وأنا أجرى صفارة الإنذار .. ودوى المدافع المضادة .. وشعرت .. بانقباض فى قلبى ..ولكننى أصبحت أعدو فى الشارع .. انطلقت بأقصى سرعتى ولمحت ثوبها من بعيد .. فجريت أكثر وأكثر لألحق بها وكانت المدافع تدوى .. وتهز كل شىء حولى ..
     وسمعت انفجارا شديدا انفجارا زلزل الأرض .. ورأيت منزلا قريبا قد انقض وتراكمت انقاضه فى الشارع وجريت كالمجنون وعيناى تبحثان فى الظلام .. وفى ركن من الطريق رأيت جيهان ساقطة على الأرض وكانت قد أصيبت فى رأسها بقطعة حديد أو حجر من الذى طار من الانفجار .. ورفعتها إلى صدرى وطوقتها بشدة .. أننى لم المس هذا الجسم قط وهو حى وقدر لى أن أضمه ميتا ..
     وانحنيت عليها وغمرتها بالقبلات .. وحملتها على ذراعى وأنا أنظر إلى الليل والظلام .. وكان كل ما حولى قد سكن فجأة .. سرت صامتا مسافة طويلة وأنا أحملها على صدرى ..
     وكانت دماؤها الحارة تسقط على الرمال .. والسماء قد ذابت فى الشفق الأحمر ..
     وكنت أرسم بقدمى على الرمال فى دائرة واسعة أعظم لوحة يمكن أن يرسمها فنان ..








=====================================
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1205 بتاريخ 5/2/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
=====================================

     
البديل

أشار علىَّ الدكتور جعفر بأن أسكن فى ضاحية المعادى .. وكنت أشكو بعد وفاة والدتى من انهيار عصبى شديد تطور إلى حالة نورستانيا .. واستطعت أن أعثر على شقة صغيرة فى بيت من البيوت الجديدة بشارع 87 وأن انتقل إلى سكنى الجديد فى اليوم نفسه ..
والواقع أن الظروف ساعدتنى فى هذه المهمة أكثر مما كنت أتوقع وأقدر ..
فقد كان الشارع كله عبارة عن صفين من الفيلات الأنيقة الخاصة وليس فيه شىء مؤجر للآخرين ..
ولكننى وجدت لافتة صغيرة لا تستطيع أن تبين كلماتها العين المجردة فقصدتها على التو ..
وكانت السيدة الهام تؤجر هذه الشقة من بيتها بعد وفاة زوجها الأول .. إذ وجدت أنها ليست فى حاجة إلى الفيلا كلها .. فأجرت الطابق الأعلى بعشرة جنيهات فى الشهر ..
وكانت الشقة صحية وجميلة .. ولكننى انتقلت إليها وأنا أحمل فى نفسى الإحساس بأننى استشفى .. وكنت لا أزال فى أجازتى المرضية .. ولا أقوم بأى عمل على الإطلاق .. فكرهتها وشعرت بالوحدة تسحقنى .. وبالرغم من الأدوية والعقاقير الكثيرة التى أخذتها فإننى لم أتقدم خطوة .. وعقدت النية على أن أكف عنها إلى الأبد ..
وكنت أخرج لأتمشى بعد مغيب الشمس وأقوم بجولة طويلة فى المدينة الصغيرة ثم أعود لأستلقى فى الشرفة مطلقا العنان لأحلام الصبا وأمانيه ..
وكنت خلال هذه التأملات المتفتحة أسمع صوت السيدة الهام فى الطابق الأول وهى تحادث ابنتها سميحة .. وكانت وحيدتها .. شابة متألقة فيها كل جمال أمها .. وكل هدوئها ورقتها ..
وكانتا تقضيان معظم وقتها فى البيت محبوستين مثلى ..
وكانت الفتاة قد تركت المدرسة منذ سنتين بعد وفاة والدها .. ووجدت إلهام هانم نفسها تواجه الأعباء كأم وكأب وحدها .. وشق عليها أن تخرج إلى إدارة المعاشات وإلى دور المحاكم الشرعية ومعها ابنتها لاستخراج الأوراق اللازمة لصرف المعاش ..
ومع أن زوجها كان موظفا فى الحكومة وقضى شبابه وكهولته يخدم الدولة ويخدم الناس .. ولكنها لم تجد من بين الموظفين انسانا يتقدم لخدمتها دون مقابل وكانوا ينظرون إلى ابنتها بعيون جائعة .. وأصابها الذعر ..
واكتسبت من هذه الأسابيع التى اضطرت أن تخرج فيها إلى الشارع بعد وفاة زوجها تجربة مرة علمتها الكثير .. وعرفت منها طباع البشر على حقيقتها ..
وكانت مريضة .. وخشيت أن يحبسها المرض فى البيت .. وتترك الفتاة تتحرك وحدها لتواجه الأعاصير فى الخارج ..
وفى هذه اللحظة تقدم لها لطفى أفندى ليريحها من كل هذا العذاب .. وتناول منها الأوراق .. وأخذ يلف بها ويدور ..
وبعد سنة من وفاة زوجها تزوجته ..
وكان شيخا وسنه أكبر من سن زوجها الراحل ولكنه عماد سترتكز عليه وشىء يعصمها من الغرق ..
*** 
ولم يكن له فى الواقع صفات زوجها السابق ولكنها اطمأنت إليه .. فقد أمنها من خوف ..
وكان موظفا مثل زوجها فى الحكومة ولكن مرتبه أقل بكثير ويكاد يكفى حاجاته الشخصية ولم تكن هى فى حاجة إلى المال بقدر حاجتها إلى حماية رجل .. ولذلك ضحت بمعاشها واكتفت بمعاش ابنتها ..
كان إيجار الشقة التى أسكنها هو بمثابة عوض لها عن معاشها الذى فقدته بالزواج ..
وكانت تعيش عيشة بسيطة مقتصدة .. فلم تكن لديها سوى خادمة صغيرة .. كما أنها كانت على مايبدو لى قليلة الأهل والزوار وكانت لاتعنى بالمظاهر الاجتماعية اطلاقا ..
وتكرس حياتها كلها لزواج ابنتها .. وكان لهما إيراد ثابت من حصة فى وقف .. وكانت توفر هذا الإيراد فى كل شهر لابنتها سميحة أيضا ..
وكان لطفى أفندى يعيش معهما فى هدوء ..
وفى خلال الشهور الأولى من سكنى فى البيت .. لم أكن قد استطعت أن أكون فكرة صحيحة عن هذا الرجل ..
ولكنى تبينت بوضوح أن فيه مكر العجائز ..
وكان يصعد إلى شقتى فى وقت العصر ويظل يتحدث ويثرثر حتى ندخل فى الظلمة وكان عذب الحديث .. كثير الأمانى .. كثير الضحك .. ويهتز لضحكه جسمه الضخم .. وتبرق عيناه الضيقتان ..
وكان قليل الحركة ومن السهل عليه أن يجلس ساعات وساعات فى مكان واحد لايغيره وكان طبعه أقرب إلى البلادة فى هذه الناحية ..
ولم أكن أعرف المصلحة التى يعمل فيها ولكنه كان يهبط من القطار فى موعد عودة الموظفين .. وفى يده ملف ضخم طواه فى جريدة صباحية قد تمزقت من كثرة الأيدى التى تناولتها وظهر فيها عرق أصابعه ..
وكنت أشاهد من شرفتى الهام هانم عندما تخرج إليه وتفتح له باب الحديقة الصغير ..
وكانت امرأة ممشوقة القد طويلة العود ولها عينان صافيتان ..
وكانت قد اقتربت من الأربعين .. ولكن بقى لها جمالها المثير .. كانت جدائل شعرها تلمع فى ضوء الشمس ..
وكان عندما يدخل .. بطىء الخطو .. ثقيل الحركة .. تعود فترد الباب .. لأنها تخشى على الدواجن التى تربيها فى ناحية من الحديقة ..
وترانى فى هذه اللحظة جالسا فى الشرفة فتحيينى بهزة من رأسها وابتسامة .. فأرد على تحيتها .. وأنا أحس بضربات قلبى ..
ولم أكن حتى هذه اللحظة قد دخلت عتبة بيتها .. كانت خادمتى العجوز تنزل إليهم .. وتنقل إلىَّ دون أن أطلب منها أخبارهم .. ولكننى لم أكن قد ولجت بابهم قط ..
كنت أحتجز نفسى بعيدا عنها .. وعن ابنتها .. لأن أعصابى المرهقة وأحزانى كانتا تجعلنى الف وأدور حول نفسى .. ولولا أن لطفى أفندى بدأنى بالزيارة وتعود على ذلك .. لدفعته بعيدا عنى ..
***
 وجعلتنى الأحزان أعيش فى وحدة بدأت أحس بآلامها ووقعها الشديد على نفسى .. فرأيت أن أعود إلى عملى بالشركة .. وأشغل نفسى به .. ولا أترك الفراغ يسحقنى ..
وكنا قد دخلنا فى الشتاء مرة أخرى ..
وفى مساء يوم وأنا صاعد شقتى .. رأيت لطفى أفندى كأنه ينتظرنى على السلم .. وقال لى :
ـ أنا عاوزك فى مسألة ..
ـ وأنا فى الخدمة ..
ـ أدخل شوية .. نشرب القهوة عندنا ..
ـ مرسى .. تفضل فوق ..
ـ أنت مش عاوز تدخل بيتنا ليه ..؟
ـ بعدين .. فى فرصة أخرى ..
وصعد معى .. وقال بعد أن استراح وشرب القهوة :
ـ معاك فلوس ..؟
ـ معايا ..
وأخرجت له ورقة بخمسة جنيهات ..
ـ أنت فاكر يا عزت .. أنا عاوز خمسة ولا عشرة .. لا أنا عاوز كتير ..
ـ كتير يعنى كام ..؟
ـ خمسمائة .. ألف ..
وضحكت .. ثم سألته :
ـ وعاوز المبلغ دا كله علشان إيه ..؟
ـ أشياء كثيرة .. هل سمعت عن اليهودى .. الذى يصنع الدبابيس أيام الحرب بماكينة صغيرة ثمنها مائة جنيه فقط ..
ـ مائة جنيه ..
ـ أجل .. وكان يكسب منها فى كل يوم مائة جنيه .. المهم فى الفكرة .. ومعرفة الوقت المناسب لتنفيذها ..
 ـ وما هو المشروع الذى فى رأسك ..؟
ـ فكرت فى أشياء .. بسيطة وصغيرة .. ولكن لايستغنى عنها انسان .. أصنع صنفا من الملاعق .. وأطليه بطلاء لايصدأ أبدا .. عرفت سر هذه الصناعة من خبير ألمانى قبل أن يعود لبلاده وأنا شخصيا درست الصناعة ..
وإذا لم نوفق فى هذه يمكن أن نعمل شناكل الشبابيك أو المقابض أو الأكر .. شىء بسيط ولكنه ضرورى وإذا لم يكن هذا فلتكن أمشاط السيدات .. أو حتى مشابك الغسيل .. أى شىء شعبى .. تتقنه .. وتتخصص فيه ..
ـ ولكن كل هذه الأشياء موجودة فى السوق ..
ـ سأظهرها أنا على وجه آخر .. لقد درست الكيمياء .. عشر سنوات وأعرف كل أسرار الصناعة ..
وابتسمت وتذكرت رجلا فى قريتنا يدعى الشيخ إبراهيم أصيب بلوثة الكيمياء وكان يحلم أبدا بأن يحول النحاس إلى ذهب وأضاع فى سبيل ذلك مائة فدان ..
ونظرت إلى لطفى أفندى .. بصلعته الملساء .. وذقنه الشهباء .. وعينيه اللتين تبرقان بأحلام الذهب .. وقلت لنفسى .. أهو شىء لازم للحياة .. أن يكون الإنسان .. حالما وقدريا .. ومتحكما فى مصيره ..!
ولم أشأ أن أصدمه فى أحلامه .. فقلت له معتذرا :
ـ لو كان عندى جزء من هذا المبلغ لذهبت لأعالج نفسى فى الخارج ..
ـ لا يبدو  عليك المرض ..
ـ ولكننى مريض ..
ـ وتجلس هنا .. وتنتظر الرحمة من السماء ..
ـ إن إرادتنا هى التى تشفينا وهى التى تحركنا ..
ـ وما الذى أفعله ..؟
ـ أعطنى .. مائة جنيه فقط .. أردها لك بعد ستة شهور .. خمسمائة .. وأجعلك تسافر إلى سويسرا .. وألمانيا .. وتعود وكأنك خلقت من جديد .. وإلا ستموت هنا كما تموت الفئران ..
وكرررت له أسفى .. فتركنى وذهب وعيناه تبرقان ببريق غريب .. ولأول مرة أحس بالرغبة فى أن أتبعه .. لأعرف هل هو يخرج فى مثل هذه الساعة ليسكر أو ليقامر أو يذهب إلى مكان آخر ..
***
وكان من عادتى أن أعطى السيدة الهام الإيجار .. فى اليوم الأول من الشهر وأنا واقف على الباب .. وكانت تقف تتحدث معى وتطيل فى الحديث .. وتعاملنى بكل لطف وحنان ..
وكنت أرى ابنتها سميحة فى الداخل تنظر إلىَّ .. وأشعر بهزات مشاعرى أمام هذا الجمال الآسر .. وأنقل العين بين الأم وابنتها .. فأرى كل واحدة منهما تكمل الأخرى .. ولم أكن أعرف ما يدور فى رأس الأم .. وهل اتجهت إلىَّ بأفكارها كعريس لابنتها .. أو لم تفكر فى ذلك .. والواقع أننى كنت فى بحبوحة من العيش .. وبصرف النظر عن حالة الهستريا التى سببتها وفاة والدتى .. فإننى كنت مطمع كل عروس ..
***
وفى ظهر يوم وجدت أن المظروف الذى اعتاد لطفى أفندى أن يحمله تحت ابطه قد تضخم .. وأخذ يحدثنى كعادته بانطلاق عن آلاف المشروعات التى فى رأسه ..
ولاحظت أنه بدأ يتعارك مع زوجته وصوته أصبح يصل إلى سمعى .. وأنه لايمكن أن تمر ليلة دون شجار ..
وكان من عادته أن يأتى متأخرا فى الليل .. ويستمر العراك بينه وبين زوجته لمدة نصف الساعة ثم ينقطع الصوت .. ويعود السكون المطبق ..
وكنت أعجب لدماثته ورقة طباعه بالنهار .. ثم تحوله إلى رجل فظ فى الليل ..
وفى خلال ليلة شتوية وريح الشمال تحرك الأشجار الصغيرة التى حولنا سمعت صرخة حادة فى شقة إلهام هانم .. وكنت أعرف صوتها .. فتمزقت نياط قلبى .. ونزلت مسرعا .. وكنت أتصور أن النار اشتعلت فى سميحة وهذا ماجعلنى أرتجف وأسرع .. وأدخل بيتهم لأول مرة ..
ووجدت سميحة واقفة فى الصالة وقد جمدت ملامح وجهها .. وأمها جالسة على الأرض .. وقد نفشت شعرها وابيض وجهها ..
وكانت عيناها مفتوحتين كعيون الموتى ..
وكانت لاتزال تردد كلاما .. فلما بصرت بى .. صاحت :
ـ سرقنى .. يا عزت أفندى ..المجرم .. سرق كل الفلوس ..
وأشارت إلى صندوق صغير مفتوح أمامها واستطردت :
أنظر .. لم يبق شيئا .. أخذ كل المبلغ .. أكثر من ثلاثمائة .. جنيه .. أخذها وهرب .. أرأيت الرجالة .. أخذ فلوس سميحة .. اليتيمة المسكينة .. فلوس جوازها .. وكانت تبكى وتنوح ..
وقالت سميحة :
ـ بس يا ماما .. أنا مش عاوزه أجوز ..
واحمر وجه الفتاة ..
***
وظللت معها أطيب خاطرها .. وأطمئنها بأننى سأخرج للبحث عنه ولابد أن أجده واسترد منه النقود .. قبل أن يضيعها .. حتى وجدتها تطمئن لكلامى .. وقالت ببساطة :
ـ والنبى تدور عليه فى كل حتة ياعزت .. دور عليه فى الكازينو ودور عليه فى مصر .. كل قهاوى العتبة .. وأنا سأبحث عنه عند خديجة هانم .. وعند مدكور أفندى يمكن راح بيت مدكور أفندى ..
وكفكفت عبراتها .. وانطلقت ترد الأمل إلى نفسها ..
وبحثت عنه فى كل مكان إلى الساعة العاشرة ليلا .. فلم أجده وفى آخر الليل عدت إلى البيت وكانت إلهام هانم فى انتظارى على الباب ..
ورأت فى وجهى الصمت فعادت عبراتها تسح ..
***
وفى الصباح انتظرتنى وأنا خارج إلى عملى .. وبادرتنى بقولها :
ـ لازم أبلغ .. تعال أعمل معروف معايا القسم ..
ـ طولى بالك شوية .. يا هانم ..
ـ لازم أبلغ البوليس .. المجرم .. النذل يأخذ فلوس المسكينة  اليتيمة ..
وكان من الحكمة أن ألجأ إلى الكلمات اللينة مبديا أسفى لما حدث ..
ومازلت أحدثها حتى صرفتها عن تبليغ البوليس .. وخففت من رعبها واضطرابها وسألتها عن بلده .. وعمله ..
فقالت :
ـ ليس معه غير المظروف .. وبلده شبين .. لكن يعمل إيه فى البلد .. عمره ماشافها ولا حد من أهله يعرفه ..
ولكننى ذهبت إلى شبين ولم أسمع له خبرا .. ولا وجدت من يدلنى على مكانه .. ومرت الأيام .. ورضيت إلهام بما حل بها ورضخت لحكم القدر .. ونسينا بعد مرور الأيام حادث النقود .. وشغلنا على الرجل نفسه .. فقد كان فى جملته طيبا أبيض القلب .. ولاشك أن ماحدث منه كان نتيجة لنزوة طارئة وتوقعنا أن يكون قد حدث له حادث ..
وكنت فى خلال مدة غيابه قد ازددت قربا من هذه الأسرة وأصبحت أرعى كل شئونها .. وأقوم للهانم بكل ماتحتاجه .. وأرافق سميحة فى صرف معاشها وفى احضار الأشياء التى تلزم وكنا نرى بعضنا فى المساء بحضور أمها وكنا ننسى أنفسنا فى الغرفة المملوءة بالأنوار الزاهية التى يرسلها مصباح جميل مغطى بالحرير ..
وكنا نتبادل بعد كل كلمة عشرات النظرات والبسمات ..
وفى كل يوم كانت تتفتح براعم جمالها أمامى ..
وأحست إلهام هانم بأنها قد عثرت على العوض ..
وكانت تقول لى :
ـ أوعى تسيبنا لوحدنا انت كمان .. ياعزت ..
ونسيت النقود التى سرقت منها ونسيت لطفى أفندى .. وأحست بأنفاسى وتحركاتى فوقهما فى البيت ..
وكنت أغلق بنفسى الباب الخارجى .. وأطمئنهما وأحييهما وأصعد إلى شقتى وأنا شاعر بسعادة تهزنى ..
وقد شعرت فى هذه الساعات بأننى أعيش لغاية .. وكانت رعاية هاتين السيدتين فى نظرى أنبل عمل يقوم به إنسان ..
وشعرت بشىء جديد يدب فى أوصالى وتفتحت نفسى للحياة ونسيت حزنى ومرض أعصابى .. ووجدت قوة تدفعنى إلى مقاومتهما والتغلب عليهما ..
***
ومساء يوم .. سمعنا طرقا خفيفا على الباب الخارجى ..
ونزلت وراء سميحة التى فتحت الباب قبلى .. ووقفت أنظر فى الظلام .. ووجدنا لطفى أفندى بجانب العتبة ..
وكان فى حالة يرثى لها .. وقد تمزقت سترته واتسخ قميصه ..ودخل دون أن يتفوه بكلمة ..
وسألت إلهام هانم :
ـ مين .. ياسميحة ..؟
ـ مفيش حد يا ماما .. دا بتاع اللبن ..
وكان هو قد سقط من الاعياء فى المدخل ..
وتحامل على كتفى وأدخلته فى غفلة إلى غرفته .. وأغلقت الباب كما كان .. وسمعت الهام هانم تقول بعد لحظات :
ـ أدخلى .. أعملى قهوة يا سميحة .. لعمك لطفى ..
وأدركت أنها عرفت أنه هو .. وغفرت له .. وكان يجب أن أذهب .. ولكننى ظللت فى مكانى .. وأنا أراقب المرأتين .. وأحدد موقفى منهما ..
وفى الساعات الأولى من الصباح .. أخذته نوبة حادة .. وجئنا له بطبيب .. وخرج الطبيب من غرفته بوجه صامت ..
وكنت أعرف أنه فى هذه الغرفة التى سيموت فيها لطفى أفندى سيبعث شخص آخر حيا من جديد .. فقد انتفضت فى خلال هذه الساعات الصامته .. وشعرت بالاكسير الذى رد فىَّ الحياة .. ودفنت إلى الأبد الأحزان القاتمة وكل فكرة تتصل بالمرض ..
وكنت أحدد أمانى القلب وكل الرغبات .. وأنادى المرأة التى اقتربت من الأربعين .. بكل حواسى ..
وأعرف أنى فى حاجة إلى حنانها .. فى هذه اللحظة من حياتى .. وأنها تعذبت كثيرا ويجب أن أفعل شيئا يعوضها عما فات ويرد لها ثقتها فى الرجال ..
وكنت أعرف أننا ونحن نواجه الحياة معا سنفعل شيئا أنبل لسميحة وأكثر بهجة ..

ــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى م . الجيل بعددها رقم 415 بتاريخ 7/12/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ 







الفرقة الأجنبية

     قبل سنوات كان الفلاحون فى الريف يحسون بالفراغ .. ولم تكن فى معظم عواصم المديريات دار واحدة للسينما .. ولاشىء للتسلية واللهو .. وكانت كل هذه الأشياء مركزة ومجمعة فى القاهرة .. فإذا حدث ورحلت فرقة تمثيلية صغيرة .. من قلب العاصمة وحطت رحالها فى مدينة .. المنيا .. أو سوهاج .. استقبلها الناس بحرارة لاحد لها .. حتى وإن كانت من أحط الفرق الجوالة على الاطلاق ..
     وكان الخواجه " اسناسيو " يملك فندقا كبيرا فى مدينة أسيوط مجاورا للمحطة .. وفى هذه المنطقة تتجمع كل الفنادق والمقاهى التى فى المدينة .. ويشتد بينها الصراع ..
     وكان الخواجه " اسناسيو " يعمل بعقل ذكى على راحة النزلاء ويجدد فى الفندق ويبتكر وسائل للتسلية ، فكان فندقه من أشهر وأحسن الفنادق فى المدينة ..
     ويستيقظ نزلاء الفندق ذات صباح على صوت أنثى .. تتكلم باللهجة " المصرية " الناعمة وتضحك وفى يدها السيجارة .. ويرون القميص الذى يضم صدرها ينشق عن مثل المرمر .. والساق منثنية إلى جانب وعارية .. فيعرفون فى الحال أن فرقة أجنبية جاءت من القاهرة فى قطار الليل ..
     وتكون الفرقة فى الغالب مغمورة وقضت فى العاصمة .. ستة أشهر على الأقل فى تعطل مر .. وليس من بين أفرادها اسم واحد رددته الصحف .. ومع هذا كله .. فبعد ساعة من وصولها يتدفق الناس على الفندق كالسيل ..
***   
     وفى الليل يبدأ عمـل الفرقة .. ويظل الرقص والموسيقى إلى الصباح .. وتأتى وفود العمد والأعيان من ملوى وديروط وكل المراكز البعيدة والقريبة .. ويصبح من المألوف جدا أن تقف عربة كبيرة على باب الفندق .. وترى على رفوفها غبار السفر .. وينزل منها أحد كبار الأعيان .. ويكون ضخما فى الغالب ويرتدى الكاكولة السمراء والقطنية البيضاء ذات الخطوط السوداء الرفيعة .. ويندفع توا إلى الداخل .. وهو يحيى الموجودين .. ثم ينزل بعده ستة من التوابع ، أربعة منهم مسلحون على الأقل .. ويجلس اثنان بالبنادق على الباب .. ويدخل الباقون ..
     وتركز عيون الرجال جميعا .. على شىء واحد .. فى الفرقة .. شىء عجيب فى نظرهم .. راقصة .. تركية .. أو شركسية .. أو مصرية أو " منصورية " .. راقصة واحدة تنسيهم رائحة الدريس .. وعليـها يدور الصراع .. وتدور الكئوس .. وتفرغ زجاجات الشمبانيا .. وتحرق أوراق البنكنوت من كل الأحجام .. لإشعال سيجارة لها .. وتكون هى فى الغالب لاتدخن على الاطلاق ..
     كانوا يبيعون القطن وينثرون ذهبه تحت أقدام الغوانى والراقصات ومن ورائهم يزحف بنك الأراضى والبنك العقارى ناشبا مخالبه ..
***  
     وفى خلال السنوات الأربع التى قضيتها فى فندق " ديانا " لم أشعر بأى ملل على الاطلاق ..
     وكنت أول من ينهض من الفراش فى الصباح .. وأنزل إلى حديقة الفندق الصغيرة لأنظر وأشرب القهوة وأطالع الصحف التى وردت فى قطار الليل .. قبل أن أذهب إلى عملى فى تفتيش الرى ..
     وذات صباح رأيت شابا نحيفا فى الثالثة والعشرين من عمره قد سبقنى إلى الحديقة .. وجلس يشرب الشاى ، وكانت تبدو عليه الوداعة ، ثم أقبلت فتاة من داخل الفندق وجلست بجانبه .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. ولاحظت أنها شديدة الخجل فبمجرد أن لمحتنى جالسا عن قرب تضرجت وجنتاها .. وكانت بيضاء طويلة وجسمها تبرز تقاطيعه فى تناسق مع الفستان الذى تلبسه .. ولمح الشاب " جارسون " اللوكاندة واقفا هناك على باب الحديقة ، فصاح فيه :
     ـ من فضلك .. صحى الجماعة اللى فوق .. جعنا ..
     ـ حاضر ..
     وبعد نصف ساعة كانت الفرقة كلها تتناول الافطار بجوارى .. وكانوا يتحدثون عن رحلتهم .. فى بنى سويف والمنيا .. ويكثرون من الضحك ويتندرون على الفلاحين البسطاء ..
     ولاحظت من وجوههم وهندامهم ، أنهم من فرق الدرجة الثالثة ولكنهم كانوا يضمون إلى مجموعتهم فتاتين من أجمل من رأيت من النساء .. وكان لإحداهن جسم شفاف كالبللور .. ينثنى ويلف كالخيرزان ..
***  
     وفى الساعة الحادية عشرة صباحا ، رأى الناس الموسيقى فى المدينة لأول مرة تعلن قدوم الفرقة .. وكان على رأسها " بلياتشو يلبس طرطورا " .. ويرقص ـ وهو سائر ـ حاجبيه .. ويكتفى بهذه الحركة عن عمل أى شىء آخر ..
     وفى الليل بدأ الغناء ودار الرقص .. ومثلت رواية مضحكة اشترك فيها الجمهور .. وسمعت وأنا جالس فى بهو الفندق الغناء .. ورنين الصاجات .. ونقر الدف .. ولكننى لم أشاهد التمثيلية ، وحوالى الساعة الثانية صباحا انفض السامر .. والتف الأثرياء حول موائد الشراب .. ورأيت جماعة منهم هناك فى زاوية من القاعة .. ومعهم الفتاة التى كانت ترقص فى السامر .. وهى الفتاة التى شاهدتها فى الصباح مع الشاب فى الحديقة .. جلست فى أول الأمر منكمشة خجلى لاتفهم بعض كلماتهم الصعيدية ثم شربت معهم وأكلت وأخذت تضحك ، وجلسوا حولها حلقة يشعلون لها السجائر بأوراق البنكنوت .. وابتدءوا بالجنيه .. والعشرة .. وهم يضحكون .. ولكن اسماعيل " بك " كتم أنفاس الحاضرين فجأة فقد أخرج بهدوء من جيبه ورقة بمائة جنيه .. وأشعل بها السيجارة للفتاة ..
     ورأيت دخان الورقة الأزرق .. يصعد إلى خياشيم الفتاة .. ثم رأيت الرماد يسقط على الأرض ..
     وفى غمرة الانتصار ونشوته .. وقفت الفتاة منتصبة .. ورأيت عواطفها كلها تذوب .. كأنها تود أن تحتضن الرجل وتقبل وجناته ..
     ثم غالبت نفسها وعادت إلى كرسيها وفمها يتموج راقصا بالضحك ..
***  
      ولما صعدت لأنام سمعت صوت اسماعيل " بك " ورائى .. فقد كان يقيم فى الطابق نفسه .. وفى غرفة مجاورة لغرفتى ..
     ولما أدرت الأكرة وحركت الباب .. رأيت على الضوء الخافت ، ضوء سيجارة هناك فى الممر .. فتوقفت ومددت بصرى ، فرأيت الشاب الذى كان فى الصباح يشرب الشاى فى الحديقة .. جالسا هناك فى العتمة .. فى نهاية الممشى كأنه فى انتظار رفيقته ..
     وفى عصر اليوم التالى شاهدت من نافذة غرفتى .. الموسيقى عائدة من جولتها فى المدينة .. وكف العزف .. ودخل البلياتشو من باب الفندق وهو ينزع القناع .. ورأيت وجه الشاب رفيق الفتاة الراقصة ..
     وقبل الغروب نزل إلى الحديقة .. وكان قد اغتسل ولبس البدلة التى شاهدته فيها فى اليوم الأول .. وحيانى وجلس جانبا يطالع بعض الصحف ..
     وسمعت الفتاة الراقصة تناديه من فوق .. وكان مستغرقا فى المطالعة فنبهته .. فرفع وجهه إليها ..
     ـ رءوف .. اطلع ..
     فهز رأسه .. وعادت تلح وتناديه ..
     فطوى صحيفته .. وصعد إليها ..
     وعاد بعد فترة وجيزة منفعلا وعلى وجهه الغضب وجلس ساهما على المقعد نفسه .. ونزلت الفتاة بعد قليل .. وكانت متأنقة .. ومتعطرة .. وترتدى رداء محتشما سابغا .. كأنها عذراء من الريف .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. وكأنها تناجيه .. حتى رأيت وجهه يعود إلى هدوئه .. وانفتأ الغضب ..
     ثم نهضا .. واتخذا طريق النيل ..
***  
    وبعد آذان العشاء .. خرجت لأجول فى المدينة .. ولما رجعت إلى الفندق فى الساعة العاشرة مساء .. كان الرقص دائرا فى القاعة الداخلية .. وكان رءوف جالسا وحده .. تحت مدار السلم وقد مال رأسه على صدره .. وتنبه على وقع أقدامى .. فرفع رأسه .. وحدق في مليا ثم سدر ..
     وجلست قريبا منه أتعشى وأنا أسمع صوت الأنغام .. ولما دعوته للطعام اعتذر وقال لى :
     ـ اعتدت أن أتعشى مع مديحة بعد أن تنتهى من رقصتها وستأتى حالا ..
     ولكنها لم تأت ..
     وانقضت ساعتان هكذا وهى تضحك مع الرجال فى الداخل .. وهو يسمع ضحكها من مجلسه ويتلون وجهه بكل الألوان .. وقد عجبت من تصرفه وشذوذه ، يصاحب راقصة ثم يغار عليها .. وسمع ضحكة حادة منها فابيض وجهه .. وكان أمامه كوب من الماء .. فرفعه إلى فمه .. ويده ترتعش .. ولا تقوى على حمل الكوب .. ولاحظت .. أن حاجبيه يرقص رقصة واحدة شديدة فى كل خمس .. أو ست ثوان ..
     وظل يدخن وينفض الرماد ثم نهض وصعد إلى فراشه ..
     وسمعت صياحا .. عاليا .. يأتى من الداخل .. وأزحت الستارة ووقفت أشاهد مديحة وهى ترقص بالصاجات وينثنى جسمها كالثعبان وكانت وسط نفر قليل من الرجال لايزيد على خمسه .. ولم يكن من بينهم اسماعيل بك ..
     وكان الدخان يملأ جو المكان .. ومديحة ترقص على نقر خفيف .. للدف .. ولايوجد عود ولاناى .. ودار جسمها دورات ثم أسبلت عينيها وهى تتأوه .. حتى اقتربت من " كنبة " .. فجلست تستريح وحبات العرق تتساقط كاللؤلؤ من جسمها العارى ..
     ثم انتصبت وأمسكت بثوبها وهى تقول :
     ـ كفاية .. بأه .. أحسن مسافرين بكره .. بدرى ..
     وصعدت السلالم وحدها ..
     ولما ذهبت لأنام بعد ذلك بنصف ساعة .. وجدت نور الغرفة التى اعتـادت أن تنام فيها مع الشاب مطفأ ولم أسمع صوتا هناك ..! وغفوت .. ثم تنبهت على صوت اسماعيل بك فى الغرفة المجاورة .. ولما رفعت رأسى عن الفراش وجدت فى غرفته ضوءا خفيفا .. وكان الصوت الذى سمعته قد انقطع ولكنه عاد أشبه بالهمس .. فتحركت من فراشى .. وفتحت الباب .. فوجدت بابه مواربا واستطعت أن أرى مديحة وهى ترقص عارية فى زاوية من الغرفة دون صوت وكأنها نائمة واسماعيل بك يتربع أمامها وفى يده الكأس وعيناه نصف مغمضتين والدخان يملأ جو الغرفة ..
     وخشيت أن ترانى .. فعدت إلى غرفتى .. وتمددت على السرير ..
***   
     وفجأة دوت طلقات مزقت السـكون .. وجريت على صوت النار ، فوجدت مديحة ساقطة فى مكانها .. واسماعيل بك .. قد تدحرج بجوارها على الأرض ..
     وكان رءوف على الباب .. وفى يده المسدس ..
     ولما تناولته منه .. سلمه دون مقاومة ..
     ـ لن يقتلونى هنا ويمزقونى .. بالسكاكين ..
     ـ لا .. لن يمسك بك أحد حتى يأتى البوليس ..
     وأغلقت الباب من الداخل ..
     وأمسك بى وأخذ يهذى :
     ـ حضرتك محام .. اعمل معروف .. خلصنى .. أنا مريض .. أنها زوجتى .. ولقد تزوجتها وهى راقصة لتكون لى وحدى .. ولم تكن هكذا كانت أشبه بالعذراء .. وقد عملت بلياتشو فى الفرقة .. لأكون معها فى الليل والنهار .. أنا مريض .. مريض بالأعصاب .. ولا أستطيع أن أقوم بأى عمل .. عندما كنت فى بطن أمى .. أتهم والدى فى جريمة قتل وسجن وكان الناس جميعا يعرفون أنه برىء .. ولكنه بقى فى السجن ثلاث سنوات ، ولما صدر الحكم أخيرا بالبراءة .. كان قد ضاع ، وتمزقت أعصاب أمى ، وقد ورثت منها هذه الأعصاب ، أنا غير مسئول ، أنا مريض .. ولن تتركنى .. وحدى .. أنت شاهد .. وأنا مريض .. مسكين ..
     وأطرقت برأسى وأنا مدرك أننى لاأستطيع أن أفعل شيئا لهذا الشاب ورحت فى دوامة من الخواطر ، وفى خلال تلك الدوامة خيل إلىَّ أننى أسمع رنين الصاجات .. وأرى جسم مديحة .. الشفاف كالبللور وهو ينثنى ويدور .. برقصة بكر .. وخيل إلىَّ أنها ترقص لى وحدى رقصة جديدة .. لم ترقصها من قبل لإنسان ..







=================================  
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 1/2/1957 وأعيد نشرها بجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حارس البستان "
=================================









فى المنزل المقابل

كانت السيدة إلهام .. أرملة تاجر معروف من تجار الخردوات فى شارع الموسكى .. وقد اكتسبت من عشرته طباعه الحميدة وصبره وحرية التصرف .. فى الأمور .. وورثت عنه منزلا من أربعة طوابق فى حى السكاكينى .. وكانت تسكن هى وابنها الصغير هشام وخادمتها زكية فى الطابق الثالث منه ..
وكان يسكن فى الدور الرابع .. القومسيونجى رشاد .. وكان من معارف المرحوم زوجها ومن عملائه ..
وكان رشاد .. برغم أنه شاب ويسكن فى حى تتلاقى فيه الشرفات وتتعانق كأنها المشربيات " أعزب " لأن الحياة تكرشه باستمرار ولأن عينيه " تزوغان " فى أسراب الفتيات الجميلات اللواتى يراهن فى الحى وفى مكان العمل .. والواقع أن عواطفه كلها كانت تنصب تحت أقدام السيدة الهام .. لأنه ظل يحمل بين جوانحه المعروف لزوجها الذى فتح له طريق الحياة .. ولأن الهام نفسها كانت جميلة ورقيقة المشاعر وتعامله بلطف حتى فى الأوقات التى تعصف فيها ريح الكساد .. ويجد نفسه عاجزا عن دفع الإيجار ..
وكان الشىء الطبيعى والمألوف فى رجل .. فقد والدته وهو صغير وحرم حنانها أن يطرب لصوت الأنثى ويحن لها .. ولهذا كان رشاد يطرب لصوت إلهام .. وتهتز مشاعره .. وكان الصوت يرن كأنها تتكلم تحت سقف بيته ويتموج كأنما ينقله الأثير ..
وكان أحيانا يسمعها تغنى .. وأحيانا أخرى يسمعها تزعق فى وجه زكية ثم يسمع رنين الكف على خد الصغير ..
وفى الساعتين اللتين كان يقضيهما فى البيت للراحة فى فترة الظهيرة .. كان كأنه يعيش معها بقلبه وجسمه ..
وكانت الهام تلبس السواد على زوجها .. كما لبسته على والدها من قبل .. ولكن برغم هذا الحزن فقد ظلت محتفظة بأنوثتها وحيويتها كأنها بنت العشرين .. وزادها الثوب الأسود جمالا ورقة ..
***
وكرجل يسكن فى المنزل نفسه .. ويحب أن يعرف أحوال جيرانه خصوصا إذا كانت أرملة وشابة وجميلة .. وكان هو من أصحاب زوجها فإنه لم يجد بعد البحث الطويل فى حياتها أية شائبة .. بل وجدها لاتزور ولاتزار من أى رجل على الاطلاق ..
وكانت تعيش لتربى ابنها وتعلمه .. وقد كفل لها زوجها المرحوم لقمة العيش .. ولم تكن هى تطمع فى المزيد ..
***
ومرت الحياة بالنسبة لها هنية رغيدة .. ولكن هشام منذ دخل المدرسة وأصبح يغيب عنها بالساعات وهى تشعر بالفراغ .. والوحشة وكانت تتألم ويتوجع قلبها .. ثم اعتادت على هذا الفراغ وألفته وأصبح الذى يكربها شيئا لاتدركه ..
***
وقد ابتدأ رشاد يتقرب إلى السيدة الهام .. منذ اللحظة التى توفى فيها المرحوم وتوقف قلبه عن النبض .. فرشاد هو الذى اتصل " بالحانوتى " وأشرف على " الصوان " .. وحاسب على مصاريف الجنازة ولم يترك السيدة وحدها للؤم الرجال ..
وبحكم عمله كان يلف فى السوق .. ويحمل لها فى آخر النهار .. " لقطة " ثلاجة صغيرة .. أو موقدا من شعبتين .. أو غسالة كهربية .. وكانت تفرح بهذه الأشياء وتعطيه ثمنها وهى تشكره .. على تعبه .. ولكنه فى نظرها لم يكن فى يوم من الأيام أكثر من شىء يتحرك على السلم ..
*** 
وسارت الحياة .. وكبر هشام حتى أصبح فى المرحلة النهائية من دراسته الإبتدائية .. وكبرت زكية حتى أصبحت عروسا .. وأصبحت تغيب فى السوق وتحادث الشبان .. وتضحك وتبكى فى آن .. وكانت السيدة إلهام تحبها وتعتبرها ابنتها .. وتخشى عليها من فتنة الحياة فى هذه السن ..
فلما علمت أن عبد الله الرافع وهو شاب يشتغل طاهيا فى المنزل المقابل يحب الفتاة ويرغب فى الزواج منها .. لم تعارض هذه الرغبة .. وسعت إلى تحقيقها ..
وأخذت تعد لها جهاز العرس ..
وجاءت بفتاة صغيرة تقوم بعمل زكية .. وأصبحت زكية العروس المنتظرة ..
وكانت الهام تسر وهى تشترى لها الأثواب الجديدة .. وحاجات العرس .. وذهبت بنفسها وفرشت لها الغرفة المعدة للعروسين .. وزينتها ..
وفى يوم الخميس زفت ..
وفى " الصباحية " ذهبت إلهام " ونقطتها " ورأت العروس فرحة وخدها فى لون التفاح ..
وشعرت إلهام بعد زواج زكية .. بفراغ أكثر وبوحشة مرة .. فقد كانت تقضى النهار وجزءا من الليل فى الحديث معها والائتناس بها .. أما الآن فمع من تتحدث وتأتنس ..
كانت تنظر إلى الفتاة الأخرى الصغيرة .. وتتقطع نياط قلبها ..
وكانت زكية تسكن فى غرفة علوية .. فى المنزل المقابل .. وكانت تحيى سيدتها كل صباح .. وتحادثها من بعيد .. وتنقل الريح ضحكاتها إلى الجيران ..
***
ومنذ تزوجت زكية وخرجت من البيت ورشاد .. يشعر بأن حاجزا قد انزاح من أمامه .. وأخذ يجد المناسبات للتحدث مع السيدة الهام .. والتودد إليها .. وحمل الهدايا لابنها ..
*** 
وكانت هى تقابل هذه الأشياء بلطف عادى ..
وذات مساء .. علم أن ابنها هشاما مريض ولم يذهب إلى المدرسة .. فدخل بيتها ليعوده .. وأجلسته بجانب المريض وجلست أمامه ..
وكانت ترتدى ملابس البيت البسيطة .. ولكنها تبدو فى أروع جمالها .. وشعر بضربات قلبه وهو يحادثها ويملأ عينيه من حسنها وضاحك الغلام .. حتى ضحكت أمه .. ولما خرج إلى الباب .. كان يشعر بنشوة قوية .. وقبل أن يصعد إلى شقته .. أبدى لها بطريق غير مباشر رغبته فى الزواج .. منها .. فأسمعته ضحكة ساخرة .. ودارت لها عيناه .. وكاد يترنح .. وهو يسمعها تقول :
ـ بتقول إيه .. أنت لازم حصل لك حاجة فى عقلك ..
وتركها ومضى ..
وبدلا من أن يصعد إلى شقته خرج إلى الطريق .. وكانت ضحكاتها تدوى فى أذنيه ..
***
ولكن بعد أن أغلقت بابها ودخلت غرفتها واحتواها الظلام فكرت فيما قاله الرجل وانتابها الأرق .. فأخذت تتطلع من النافذة إلى الطريق ورأت خادمتها زكية فى المنزل المقابل .. تمضى على السطح وهى تحمل مصباحا بتروليا صغيرا ..
ثم تجلس على الباب فى انتظار زوجها .. وبعد قليل عاد الزوج من الخارج وجلسا يتعشيان فى الهواء الطلق وهما يتسامران .. ويضحكان ..
وبعد العشاء .. دخلت زكية إلى الغرفة أولا .. وأطفأت المصباح ..
وشعرت إلهام بالتعاسة المرة والفراغ .. القاتل فاعتمدت بذراعيها على النافذة .. وبكت حتى تمزق صدرها ..
*** 
ومر أسبوع .. وكان رشاد بعد الذى حدث يتحاشى أن يقابلها على السلم .. فكان يصعد إلى شقته .. متلصصا .. وينزل سريعا ..
وأخذ يبحث عن سكن آخر لينتقل إليه فى أول الشهر الجديد ..
*** 
وفى صباح يوم سمعها تقول له وهو نازل :
ـ رشاد أفندى من فضلك هات معاك .. مجلة الأولاد لهشام .. البنت ملقتهاش تحت ..
وتعجب ولكنه جاء بالمجلة .. وهو راجع بعد الظهر .. وتناولتها منه برقة ودعته إلى شرب القهوة .. فاعتذر .. ووقفت أمامه .. تنظر إليه .. ويدها تعبث بطرف سترته .. ثم وجدت زرا .. على وشك السقوط .. فجاءت بالخيط وأخذت تثبته له ..
ووقف هو أمامها كالحمل الوديع .. لايبدى أية حركة ..







ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد رقم 282 بتاريخ 14/3/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق