الجمعة، 17 أبريل 2015


عين لاتنام

كان الدكتور بهجت طبيبا ممتازا ويعمل فى وحدة مجمعة انشئت حديثا بقرية العثمانية بالصعيد .. وكانت الوحدة .. عبارة عن بناية كبيرة بيضاء مكونة من طابقين وتبعد عن القرية بمقدار فرسخ واحد .. وأقيمت وسط المروج والمزارع .. وعلى طريق رئيسى يتصل بثلاث قرى متشابكة ..
ولم يكن قد دخل فيها النور الكهربى .. ولا تربت فيها الدواجن .. ولا أختير ثور البقر الذى سيحسن نتاج الماشية فى المنطقة .. ولكنها اشتغلت بوحدة العلاج والمدرسة الإبتدائية ..
وكان الدكتور بهجت برغم عدم وجود النور الكهربى ونقص الدواء يحاول أن يستكمل عناصر الوحدة ويجعلها تتحرك وتعمل .. وكان يشرف فى الواقع على كل شىء فيها .. وينفخ فيها من روحه القوية ويفيض عليه من إنسانيته ..
وكان الفلاحون المساكين الذين تفتك بهم الأمراض المزمنة .. ويحسون بالضياع والاستغلال البشع كلما ذهبوا إلى الأطباء فى المدينة خاب أملهم .. أما الآن فقد وجدوا الفرج كله فى الوحدة .. والأمل المنشود بعد عذاب طويل فتدفقوا على أبوابها كالسيل .. فإن أربعة قروش نظير الكشف .. كان يضيع ضعفها من جيب الفلاح المسكين فى سبيل الوصول إلى المدينة ..
وكان الدكتور بهجت يعشق الطبيعة بطبعه .. وينفر من صخب المدينة وكان حبه للريف متأصلا فى نفسه من أيام طفولته .. فسر جدا لأنه بدأ فيه حياته العملية ..
وأخذ يعمل بإخلاص وأمانة ..
وكان يستهويه بعد تعب النهار منظر الشمس الغاربة .. وهى ترسل آخر شعاعها الأصفر على حقول البرسيم والقمح والشعير .. والطيور تحلق فى أسراب عائدة إلى أوكارها ..
كما كان يلذ له أن يستقبل فى الصباح شقشقة العصافير .. وأصوات النواعير .. والبلابل وهى تغنى على فروع الأشجار ..
*** 
وكان يعجب كل العجب من القرويين .. ويبدو له جليا أن الذين يترددون على العيادة لا يتغيرون أبدا ..
ويرى تلك البيوت النائمة المطمئنة فى ظلال النخيل تكرر نفسها فى كل قرية والكلاب تنبح فى الحقول وفى الدروب ..
وكان الوقت شتاء .. والأرض كلها مكسوة بالنبات الأخضر ..
وكان يحيط ببناية المجمع سياج دائرى له باب صغير يفضى إلى الطريق الرئيسى ..
وكان الدكتور بهجت ينهض بعلاج المرضى فى هذه الوحدة .. وفى وحدة أخرى تبعد عنه بمقدار أربعة فراسخ .. ولم يكن يحس بالارهاق قط فى الوحدتين لأنه يحب عمله ويخلص له ..
وكان معظم المرضى من العجائز ومن الذين يشكون من أمراض لابرء منها على الإطلاق كتضخم الطحال والاستسقاء وتليف الكبد .. والدوسنتاريا المزمنة ومع هذا كان يستقبل الجميع ببشاشته المعهودة وبكلمته الطيبة .. وعندما يفرغ من العيادة يذهب إليهم فى البيوت .. فأحبوه جميعا وعجبوا لطبيب شاب يمتلىء قلبه بالحنان وتفيض نفسه بهذه الروح الإنسانية فى دنيا كلها شياطين ..
وكان عندما يفرغ من عمله يجلس مسترخيا فى الشمس .. يتحدث أو يقرأ .. حتى يخيم الظلام .. ويلف الليل كل شىء فى شملته ..
وكان له بيت فى المدينة ولكنه كان يقضى معظم الليالى فى مسكنه الخاص الملحق بالوحدة .. وبرغم الرصاص الذى كان ينطلق فى الليل فى كل اتجاه وبرغم حماقة الفلاحين وجهلهم ..
وبرغم حوادث السطو والنهب والقتل فإنه كان يحب الريف ..
وكان فى النهار يشغل بالعمل .. ولكن فى الليل يشعر بالسآمة والوحشة حقا .. فكان يخفف من وقع ذلك على نفسه بأن يخرج .. ليتمشى على جسر القرية ومعه الخفير وبعض من بقى فى المجمع من الموظفين .. ويراقب الفلاحين وهم راجعون من الحقول فى ساعة الغروب ويسوقون أمامهم دوابهم .. وقد حملوا ظهورها بالبرسيم ..
*** 
وبعد شهرين اثنين افتتحت العيادة الداخلية فى المجمع .. ونصبت الأسرة للمرضى وهنا وجد الطبيب مايشغله فى الليل ..
وكان الزوار يتحدثون عن السماد والكيماوى والبذور .. وأسعار الغلال .. وعمل الجمعية التعاونية فى القرية والصعوبة التى يلاقيها الفلاحون فى المواصلات .. وفى جلب حاجاتهم من السوق ..
وكان الدكتور بهجت يشترك معهم فى الحديث .. وقد نشأ فى الريف .. ويعرف طباع أهله وما يحتاجه الريفى بالفعل ..
وكان السيد أحمد سكرتير المجمع ينقم على الفلاحين ويتهمهم بالجهل والمكر وهم لجهلهم يسرقون قطع الأخشاب والحديد من المجمع .. مع أنه أقيم لمنفعتهم ومصلحتهم ولكنهم لايميزون بين ماينفع وما يضر .. ولايزالون يعيشون فى الخرافات ويلوذون بالأضرحة يلتمسون منها الرزق والحياة .. وأنهم يبيعون الدواء بدلا من تعاطيه .. ويعيشون على السرقة والنهب والقتل ... وما داموا يعيشون هكذا .. فلا خير يرجى منهم ..
وكان الدكتور بهجت يلتمس لهم المعاذير فى كل تصرفاتهم .. ويقول له :
ـ إن وظيفتنا فى الحياة أن نفعل الخير .. لكل الناس .. ونخدم الفقراء والجهلاء .. والذين يميزون النافع من الضار .. والذين لايميزون ذلك .. نخدم الجميع دون أن ننتظر المثوبة من أحد .. هذه هى وظيفة الإنسان فى الحياة ..
ـ إن حوادث السرقة تقع فى كل ليلة .. وأنت تسمع الرصاص قريبا منا .. يزأر فى الجو .. فما أكثر الأشرار ..
ـ إنك تتحامل عليهم .. إنهم طيبون بسطاء كرماء .. وإذا وجد الشرير فهو فى كل مكان فى الأرض ..
ـ هل يرضيك أن تسرق أدوات من المجمع ..؟ لقد غيرنا الخفير ثلاث مرات فى مدة وجيزة ..!
ـ رد على هذا كله بالخير والمعروف دائما يغير الاتجاه ..
وابتسم الدكتور .. أنه لايغير منهجه فى الحياة قط ..
***
وكانت الحياة فى المجمع تمضى فى الواقع مشرقة ومسلية فى الصباح .. عندما يفد القرويون والقرويات بحميرهم وأطفالهم .. ويصبح كل شىء كخلية النحل ..
ويعمل كل من فى المجمع بنشاط وحمية ..
ثم يعود السكون بعد ساعتين اثنتين .. ولكن يظل الطنين والدوى فى المدرسة حيث يبقى الأطفال إلى مابعد الظهر فى البناء الملحق والخاص بهم ..
وكان هذا هو الجزء الحيوى فى الواقع .. حيث يتعلم أبناء ثلاث من القرى المجاورة ولم يكن التعليم مشتركا كما فى مدارس القاهرة .. بل كانت المدرسة التى فى المجمع مخصصة للبنات فقط .. وجعلت مدرسة القرية للصبيان ..
وكانت المدرسات .. يأتين إلى المدرسة فى الصباح .. فى سيارة أجرة .. وتعود لتأخذهن فى العصر ..
وكن أربع مدرسات شابات .. وفى سن متقاربة .. ويلبسن فساتين متشابهة أيضا ولم تكن منهن واحدة يسترعى جمالها النظر .. كن عاديات ومألوفات ..
فلم يكن وجودهن فى القرية يسترعى نظر أحد .. لأن فى وجوه الفلاحات المترددات على المكان ماهو أجمل وأنضر وأكثر صباحة ..
وحتى لهجتهن القاهرية .. قد الفنها وسمعنها من قبل من ضابط البوليس ومعاون الزراعة ومفتش الرى ..
وفى ذات أصيل .. كان الدكتور راجعا من زيارة مريض كان يتردد عليه فى القرية وطاب له أن يتنزه ويقطع المسافة ماشيا على قدميه .. والشمس تتراقص فى الأفق .. وأحس فؤاده بالبهجة لما حوله من جمال وارتد وهو نشوان .. حتى اقترب من الطريق المفضى إلى المجمع ..
وهناك لمح على رأس الطريق سيدة تهم بركوب سيارة واقفة على الجسر ..
وكانت فى شمس الأصيل .. ترتدى ثوبا شتويا .. وتقاطيع جسدها ظاهرة من خلال القماش المشدود .. وسمع صوتها وهى تحادث المدرسات وضحكة ناعمة متكسرة كرنين الفضة ..
وظل يتبعها ببصره حتى انطلقت السيارة بهن جميعا قبل أن تغرب الشمس ..
*** 
وفى صباح اليوم التالى رأى بهجت نفس السيدة .. نازلة مع المدرسات من السيارة ومتجهة إلى المدرسة .. وكانت فى اشراق الصباح ترتدى ثوبا صوفيا يلف صدرها وكتفيها لفا محكما ..
وكانت تتجه مع الضوء الباهر إلى البناية .. والأفق الشرقى كله يلتهب بالعسجد ..
كانت المرأة التى تسير مع ثلاث غيرها قد حركت فؤاد الطبيب الشاب .. وملأته بالبهجة ..
وفى خلال النهار عرف أنها مدرسة جديدة .. قادمة من بنى سويف .. وأنها متزوجة .. وتركت زوجها هناك يسعى إلى نقله إلى المنطقة التى تعمل فيها ليكون بجوارها ..
*** 
وكانت تذهب مع المدرسات إلى المدينة بالسيارة التى يستأجرنها بالشهر وتعود معهن إلى المدرسة .. وتقيم مع واحدة منهن مؤقتا إلى أن يحضر زوجها .. ولم يكن وجودها فى الواقع إلا متصلا بالعمل ..
وكان بهجت يرقبها عن بعد .. ولكنه لم يحادثها قط ..
والواقع أن المدرسات فى هذا الجناح من المجمع لم يكن يختلطن بأحد ..
وكان لايوجد معهن فى الحقيقة .. رجل غير الفراش شعبان ..
وكان لهن بمثابة الخادم والحارس معا .. وكان وادعا مؤدبا .. خفيض الصوت لايرفع طرفه .. ولايرفع صوته .. وكان يقوم على خدمتهن ويأتى لهن بالأشياء من القرية ومن سوقها .. كان يتسوق لهن البيض والجزر والخص واللفت .. والطماطم والجرجير ..
وكن يحملن هذه الأشياء الطازجة معهن بالسيارة وهن عائدات إلى المدينة ..
وكان يخص فوزية المدرسة الجديدة بكل خدماته .. وإذا أرسلته إلى ديروط .. أو حتى ملوى .. انطلق فى سرعة الريح .. لم يكن يرفض لها أى طلب .. 
ولم يكن الدكتور بهجت حتى هذه اللحظة قد حادث فوزية أو رآها عن قرب .. كان يراها من نافذة حجرته ذاهبة فى الفناء إلى المدرسة .. أو راجعة منها .. أو جالسة فى الشمس فى فترة الفسحة تتحدث مع بعض زميلاتها .. أو ممسكة بيدها كتابا .. أو مجلة ..
ولكن حدث ما جعلها تجىء إليه .. بمحض المصادفة .. فقد دخلت حجرته تجر طفلا فى المدرسة كان يتلوى من المغص .. وأعطى الطبيب الطفل مسكنا ووقف يتأمل فوزية عن قرب ويحادثها لأول مرة .. وقد امتلأ قلبه سرورا ..
كانت رقيقة الصوت .. وأخذ وجهها يتضرج بالخجل بعد كل سؤال عادى وجهه إليها عن الطفل .. حتى رأى الطبيب أن يكف عن الأسئلة ويلتزم الصمت ..
وكانت ترتدى ثوبا صوفيا من قطعة واحدة .. وتقاطيع جسدها ظاهرة من خلال النسيج ..
وكانت ترتدى حذاء بنيا وجوربا فى لون بشرتها الناصعة ..
وكان وجهها مستديرا .. وعيناها سوداوين لامعتين .. وأنفها الصغير .. ينسجم مع شفتيها الحالمتين .. وكانت أكثر رقة ممن شاهده فى كل النساء قبلها .. وظلت أهدابها ترف على خديها .. كانت هناك شامة سمراء على الخد الأيمن تحت خط الأنف مباشرة ..
وكان شعرها يتوهج فى الضوء الساقط من النافذة ..
ولم تلبث طويلا .. وتناولت الغلام بيدها الرخصة .. ومشت به فى الممر المعتم ..
وكان يسمع وقع أقدامها الخفيفة .. وعيناه إلى الريح اللينة التى أخذت تداعب رؤوس الأشجار ..
*** 
أصبح بهجت يهتم كثيرا بالأحوال التى تجرى فى المدرسة .. وصحة التلميذات .. ليرى فوزية عن قرب ويحادثها .. وفى فترة لا تتجاوز الشهرين أحس بأنه يحبها من كل قلبه .. وأنه يتلهف على ملاقاتها ومحادثتها فى كل ساعة ..
وكان يستيقظ مبكرا ويراها وهى هابطة من السيارة مع زميلاتها ثم يرقبها .. وهى راجعة فى العصر ..وتكشف له أنه من الوقت الذى لاحظها بعينيه .. أنها بدأت تتزين بالقدر الذى تسمح به الظروف .. وأنها تغير ثوبا كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا .. وتبدو دائما أنيقة فاتنة .. وفى حالة من البهجة .. وقد ذهب عنها السأم الذى كانت تحس به قبل أن تراه وتحادثه ..
لقد غزا وحدتها التى استمرت أياما طويلة ..
وكان يسره منها أنها تجيد الفرنسية وحدثته أن أهلها علموها فى أول مراحل التعليم فى مدرسة أجنبية ثم انتقلت إلى المدارس العربية ..
كما أخبرته أنها تسكن مؤقتا مع بعض زميلاتها فى المدينة حتى يأتى زوجها فتقيم معه هنا .. أو تقيم فى البندر .. وأنها تفضل الإقامة هنا لأنها تحب الريف .. الريف يمتزج بحياتها .. والهدوء يلذ لأعصابها ..
وكانت مقابلاتهما عابرة وفى تحفظ للعيون التى تحيط بهما .. وفى جو البناية كلها ..
وكان ثمة خوف يظهر على وجهها إذا بصرت بشخص يرقبها وهى تحادث الطبيب ..
*** 
وكان بهجت يحمل فى نفسه قلبا إنسانيا عامرا بالحب للجميع .. ولكنه بعد أن التقى بفوزية شعر بهزة عميقة وعرف معنى الحب الحقيقى .. وعرف أنه يعيش لغاية مرسومة وارتعشت فى عقله الصور .. وهو الشاب الذى لم يبلغ السابعة والعشرين من عمره ..
وخلال لحظات كان يكف فيها عقله عن التفكير .. كان يراها بعين الخيال بهيجة مشرقة فى كل لحظة ..
وكان يريد أن يغذى عقله وقلبه بالانفراد بها والجلوس معها ..
وقد أتيحت له الفرصة بأن رآها هى وزميلتها سعدية .. وكانتا راجعتين من القرية .. فى يوم من أيام الخميس .. والليل قد شرع يهبط ..
وكان سائرا على مقربة منهما فى ظل الغسق وسط الحقول .. فاتجه إليهما .. وأخبرتاه أنهما كانتا مدعوتين للغداء عند زوجة العمدة .. وأنهما شاهدتا القرية لأول مرة وسرتا بها ..
ووقف معهما يتحدث عند القنطرة فى انتظار السيارة التى طلبتاها من المركز لأن سيارتهما كانت قد حملت رفيقتيهما منذ الظهر ..
وكان بهجت يود أن يعرض عليهما .. بأن تقضيا الليل عنده فى بيته ولكنه استحيا من ذلك ..
وقف معهما يتحدث والليل رطب رخى .. والبرودة تبعث القشعريرة فى الأبدان .. ولكنه كان يحس بالدفء ..
وكانت فوزية ناضرة .. ومشرقة .. ويبدو عليها السرور .. ولم يكن هناك الخوف الذى كان يظهر عليها وهى تحادثه بالنهار ..
كان الليل قد أسدل قناعا على هواجسها .. أو حجب عنها العيون التى كانت ترمقها ..
وظل معهما حتى جاءت السيارة وودعهما وقلبه يفيض بالحب ..
*** 
وانصرم الشتاء وابتدأ دفء الربيع .. وكانت احدى المدرسات قد أحست بالتعب .. وهى فى قاعة الدرس .. وانتابتها قشعريرة .. فعادها الدكتور بهجت وأشار إلى زميلاتها بنقلها إلى العيادة الداخلية لتستريح إلى آخر النهار .. حتى تخف عنها الحمى ..
وصحبتها فوزية إلى البناية ولما ظلت المريضة على حالها من التعب .. ولم يكن هناك أحد فى الجناح المخصص للمرضى .. رأت فوزية أن تقضى الليل فى صحبتها .. ولاتتركها وحيدة ..
ولما زار الطبيب المريضة بعد العشاء .. ورأى فوزية بجوارها .. وعلم أنها ستقضى الليل هنا .. أحس بالسرور الممزوج بالخوف .. وشعر باضطراب قلبه واضطراب نفسه .. ورأى أن ينقل المريضة إكراما لها إلى الدور العلوى لتحس بالراحة أكثر .. وصعد بهما إلى هناك .. ثم أعطى المريضة حقنة .. ثم تركهما وخرج .. وأغلق الفراش الأبواب .. وذهب كل لينام فى المكان المخصص له ..
ولما كان الجناح كله خاليا من المرضى .. فقد ظلت فوزية ساهرة بجوار صاحبتها .. حتى نامت .. ومع ذلك لم تطاوعها نفسها وتتركها إلى الغرفة المجاورة .. بل استلقت فى الغرفة نفسها على الحشية ..
***
ووضع الدكتور رأسه على المخدة ولكنه لم ينم .. ظل إلى مابعد منتصف الليل ساهرا يتقلب فى فراشه .. ولأول مرة فى حياته يحس بليل الريف الطويل الموحش المشوب بالخوف والرهبة .. وكان نباح الكلاب من بعيد يروعه .. وسمع صوت الطلقات التى يتبادلها الفلاحون فى المزارع ..
وكان يعرف المكان الذى تنام فيه المريضة .. والمكان الذى اختارته فوزية لتنام فيه .. وقدر أنهما قد تنامان فى فراش واحد .. ولكن الجناح على أى حال صغير ..
وارتجف ثم نهض من فراشه ووجد نفسه يتسحب فى الظلام ويتجه إلى حيث تنام المرأتان ..
وكان يعرف طريقه فى الظلام .. دون أن يستعين بأى ضوء .. ولكنه قبل أن يبلغ الباب .. وقف ينظر من البسطة الخارجية إلى الليل .. والسكون المخيم .. ولأول مرة يتحسس أنفاس الزرع المحيطة بالبناية ..
وعندما ضغط بجسمه على الباب الخارجى الصغير وجده محكم الإغلاق .. ودار ثم عالج النافذة الصغيرة التى فى الحجرة الوحيدة والملحقة بالمطبخ .. فى الدور الأرضى .. حتى فتحها بحذر وأدمت أصابعه .. وقفز منها إلى الداخل ..
وصعد إلى الدور العلوى ..
وتقدم بحذر وأحست به فوزية .. ورأته على ضوء المصباح الخافت .. واقفا يتأملها .. وأذهلتها المفاجأة ولكنها لم تصرخ .. وعندما ضمها إلى صدره .. وبعد بها عن مكان النائمة الأخرى خشية أن تحس بهما لم تمانع .. كانت خائفة ومسلوبة الإرادة تماما وأحست بحرارة شفتيه على وجهها وعنقها ..
كانت مشبوبة العاطفة .. وقد وجدت من مزق وحدتها .. وأطلق أحاسيسها المكبوته ..
وتحت يده التى كانت تداعب فى حنان ورقة شعرها وخديها .. نسيت نفسها ونسيت رفيقتها فى الغرفة المجاورة .. ونسيت أنها مستلقية على أريكة من غير حشية .. ولكنها لم تحس شيئا .. غير أنفاسه الحارة وقبلاته الملتهبة ..
ولم يكن مناص من فراقهما قبل أن يطلع النهار .. وتحس بهما المريضة .. ومشت معه فوزية إلى الباب الصغير .. وقف هناك يعانقها عناقا طويلا على عتبة الباب .. قبل أن يفترقا ..
وتنبه على حس .. فلما تلفت وجد شعبان فراش المدرسة ينظر إليهما فى عناقهما .. ثم غاب الفراش سريعا قبل أن يراه الطبيب تماما ..
وكانت فوزية قد رأت الفراش وهو يرقبها وهى فى أحضان بهجت واصفر وجهها وحكى وجوه الموتى ..
وانفلتت من بين ذراعى بهجت ودخلت وردت الباب سريعا ..
وانسل الطبيب فى اضطراب وخوف إلى مسكنه .. وكان كمن أصيب بقارعة دوخته ..
***
وفى صباح النهار وضحاه .. كانت فوزية تتحاشى النظر إلى الفراش .. ولا تكلفه بأى عمل ولكنها لما التقت به عرضا بعد ذلك .. رأت فى عينيه الاحتقار الشديد لها .. وسمعت منه كلمات السخرية .. والاشارة الخفية إلى المنظر الذى رآه فى الليل .. فجن جنونها .. وجرت إلى الدكتور ..
وقالت له هامسة :
ـ بهجت .. يجب أن تتخلص منه .. أنه بصر بعارى .. وسينشر الفضيحة على الملأ ..
وسألها فى التياع :
ـ كيف ..؟
ـ اقتله ..
وصمت ..
يقتله .. وارتعش بدنه وهو يسمع هذه الكلمة لأول مرة .. وكأنما استقر شىء كالحجر فى معدته ..
وابتعدت عنه فوزية سريعا وتركته فى حيرته وارتباكه ..
وبعد يومين قالت له ووجهها يعصف .. وكانت تنتفض من فرط الانفعال ..
ـ لقد تركته .. ليسخر منى .. أنه يهددنى بارسال رسالة إلى زوجى يصف فيها المشهد كله .. إن لم تقتله .. سأقتله .. أنا .. لقد كنت شجاعا مقداما .. وأنت تتسلل من النافذة فى الليل .. أما الآن فأنت أجبن من كلب ..
لقد طير الفراش صوابها .. ذهب بعقلها تماما .. ومزق أعصابها ..
وتركته وذهبت ..
*** 
وفى الليل كان الدكتور بهجت يعيش فى دوامة مفزعة ..
وكان كلما حاول .. أن يحادث فوزية أو يهدىء من روعها .. تقول له هامسة :
ـ تخلص من الذى رأى عارى .. أنه عين القدر التى ترصدت بنا ويجب أن نسحقه قبل أن يسحقنا .. ستموت أنت أو أموت أنا .. إن لم يمت هو ..
ـ ومن الذى سيقتلنا ..؟
ـ زوجى .. أو أخى .. أو عمى .. أنك لاتعرفهم ..
وأجال طرفه فيما حوله .. فى ذهول ..
ودخلت فوزية غرفة المدرسة وأغلقتها عليها .. وحجبتها عن العالم الخارجى .. أربعة جدران وخشى أن تكون قد انتوت .. أن تفعل .. فى نفسها شيئا ..
ووجد نفسه قد تحول فجأة إلى شيطان .. ماتت كل العواطف الخيرة التى فيه .. وكف عقله عن التفكير .. أن شيئا رهيبا قد فرق الصلة التى بينهما سريعا بمثل ضربة السكين .. ولن يلامس جسدها مرة أخرى ..
ولن يضع فمه على شفتيها ..
وكيف حدث هذا سريعا .. كيف .. أنه لم يرتو منها .. قط .. ولم يطفىء جذوة ناره ..
*** 
وفى الليلة التالية .. وقف قرب النافذة يدخن ويفكر .. كيف يقتل الفراش .. أيكلف شخصا آخر بقتله .. ويعطيه الثمن كما يفعل أهل المنطقة .. إن هذا جنون .. أيصدمه بالسيارة صدمة قاتله .. أيضع له السم فى الطعام .. أيضربه بالنار ..
وفى تلك اللحظة .. رأى الفراش يتحرك .. فى الفناء .. انه ذاهب ليتوضأ فى الظلمة ويصلى الفجر كعادته .. ولا أحد معه .. والسكون مخيم .. والكل نيام .. وهذه فرصة لن تعوض .. وتحرك بهجت وهو مسلوب الإرادة .. أسرع وتناول مسدسة من درج الدولاب .. وتلفح وغطى رأسه .. وخرج بجلبابه العادى وهبط إلى الدور الأرضى .. واجتاز الفناء بحذر .. وتخطى سياج المبنى .. ووقف خارجه يرقب شعبان فى الظلام حتى فرغ من الوضوء .. ونهض .. وعندما شرع يسير .. صوب إليه بهجت .. وأطلق النار ..
ولكن فى هذه اللحظة سمع طلق آخر .. وسقط الدكتور والفراش معا إلى الأرض والفارق بين سقوطهما كان فقط بضع ثوان .. فقد كان هناك شخص ثالث يراقب الطبيب وهو يتحرك وراء السياج .. ويرفع مسدسه .. وتصوره لصا يقصد قتله ..
وكان هذا الشخص الثالث هو الخفير الذى يحرس البناية ..
ونبحت الكلاب .. وفزعت طيور الليل من صوت الطلقات .. وأخذت النجوم تتهاوى من كبد السماء ..
وبقى نجم واحد كبير يتألق .. ويحاول أن يطارد الظلمة ويمحوها ..







ــــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى م . آخر ساعة بالعدد 1378 بتاريخ 22/3/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــ







الفنان

     فى ليلة من ليالى السبت دخل إبراهيم عبد المجيد وهو موسيقى محترف حانة من الحانات الكثيرة المنتشرة فى حى قصر النيل .. وكان يمسك فى يسراه العود ملفوفا .. فى كيس من القماش وفى يمناه ابنته بثينة التى كانت تقوده فى هذه الشوارع لأول مرة وقد بهرتها الأنوار ..
     دخلا الحانة من بابها الصغير حابسين الخطى كأنهما لصان ..
     واختارت بثينة مكانا وسطا يسمع منه جميع من فى القاعة .. وقع الأوتار ..
     وجلس والدها يشد أوتار العود .. وقد احتضنه فى صدره .. وأمسك بالريشة وأخذ يدندن .. ليهىء ابنته للدور .. وفيما هو مستغرق فى عمله مقبل عليه بكليته وقف بجانبه صاحب " البار " .. وهمس فى أذنه بشىء ..
     فرفع الموسيقى رأسه وسأل :
     ـ لماذا ..؟
     ـ الزبائن عندنا لايحبون الموسيقى العربية ..
     ـ لم .. وأكثرهم مصريون ..!؟
     ـ ولكنهم لايحبون هذه الموسيقى .. فتفضل بره ..
     وأسقط فى يد الرجل .. فلم يحدث أن تلقى فى حياته مثل هذه الإهانة ..
     وحول وجهه إلى فتاته فى صمت .. وجمع حاجته .. ونهض .. والدم يفور من كل شرايينه ..
     وكان الحان مستطيلا والمقاعد صفت على الجانبين .. فتنبه الموجودون لما حدث ..
     وصاح أحدهم فى صاحب البار :
     ـ خليها ترقص يا خواجه باولو .. دى حلوة ..
     ورنت ضحكات أنثى .. وسعال سكير .. ودفع الموسيقى ابنته إلى الخارج وصفق الباب وراءه .. بعنف .. فأخذ هذا يتأرجح على المزلاج .. ويحدث صوتا رتيبا .. لمدة دقيقة كاملة ..
     ثم خيم السكون .. والكآبة على المكان .. وأصبح الدخان .. والسعال والحزن أبرز شىء فيه ..
     وكان صاحب البار .. قد عاد إلى مكانه من المنصة بهدوء .. كأنه ما فعل شيئا .. ولكن كان هناك شخص يركب حركاته باهتمام منذ البداية ولاحظ كل ما حدث .. وكان هذا الشخص هو أنطونيو .. العازف على المندولين .. فى " البار " وكان قد سمع الحوار .. وأحس بمثل اللطمة على خده .. عندما رأى الموسيقى الأعمى خارجا وهو يجر ابنته والعيون تحدق فيه بفضول وحشى .. ولم يستطع أن يكتم غضبه .. فطلب كأسا من الكونياك .. وظل يشرب .. ويشرب وهو لايتحرك من مكانه .. ولاحظ الرواد أنه ترك المندولين جانبا .. وانغمس فى الشراب .. فاقترب منه صاحب البار وقال له :
     ـ أعزف شيئا .. يا أنطونيو ..
     ـ إنى متعب .. ليس لى مزاج الليلة ..
     ـ الليلة .. مساء السبت .. والبار ممتلىء ..
     ـ لن أعزف فى هذا البار شيئا آخر قط ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ لقد أهنت الرجل أمامى .. وطردته ..
     ـ فعلت هذا .. من أجلك .. والزبائن هنا لايحبون الصخب ..
     ـ أنك لم تسمع شيئا من الرجل .. والصخب والضجيج يأتيان دائما من روادك .. لماذا لم تذكر السبب الحقيقى بصراحة ..
     ـ أى سبب ..؟
     ـ لماذا لاتقول بصراحة .. أنك متعصب .. وطردته .. لأنه مصرى ..
     ـ أبدا .. ما فكرت فى هذا ..
     ـ هذا هو السبب .. فلا تكن جبانا .. لقد حسبت أن ذلك يرضينى .. لأنى أجنبى مثلك .. ولكنك نسيت أن الفن لاوطن له .. وأن الإهانه وجهت إلى شخصى ..
     ـ لم أكن أتصور هذا .. وأعتذر ..
     ـ فات الأوان .. ولقد لقى الرجل الصفعة على وجهه وخرج بها ..
     ـ القهاوى .. والبارات .. كثيرة ..
     ـ ولكن الرجل فنان .. ولقد أهنته وشللت أنامله .. فهو لايستطيع أن يحرك أصابعه الليلة وسيذهب إلى بيته .. وينام هو وأسرته من غير عشاء .. وأنت لاتعرف البطن عندما تصرخ لأنك حقير وأعتدت أن تملأه من فضلات الزبائن ..
     وتناول أنطونيو المندلين .. وخرج يدفع الباب برجله واستقبله .. الليل .. ومطر الشتاء فضم سترته على صدره ..
***  
     وكان الموسيقى ابراهيم بعد أن خرج من الحانة حزينا محطم القلب .. قد أحس بالتعب فلم يستطع أن يمشى طويلا مع ابنته تحت وابل المطر واتخذ طريقه إلى البيت وليس فى جيبه قرش واحد .. واستقبلته زوجته باحثة فى جيوبه .. ثم سألت :
     ـ أين الفلوس ..؟ اشتريت بها سجائر ..؟
     فلم يرد عليها .. ووضع العود جانبا .. واضطجع ..
     ـ هل يمكن أن تعيش أسرة هكذا وتتغذى من الهواء .. أعمل معروفا .. البنت كبرت دعها تشتغل وتساعدنا ..
     ـ ماذا تعمل ..؟
     ـ أى شىء .. تشتغل فى مصنع ملابس .. علب كرتون .. معمل حلوى .. أى شىء خير من دورانها معك .. فى الشوارع ..
     ـ ستظل معى إلى أن أموت .. فلماذا تصرخين لقد اعتدنا على هذه الحياة ..
     ـ إنى مشفقة عليك وعلى حالك .. والجوع حطمك .. ووجهك أصفر .. كالبرتقال ..
     ـ أعملى كباية شاى .. أحس برعشة ..
     ـ لايوجد .. شاى ولا سكر ..
     ـ أى شىء سخن ..
     ـ لايوجد شىء على الاطلاق ..!
     ودخل الفراش محموما .. وفى الصباح لم يستطع أن ينهض .. وأخذه السعال وكان عنده بقايا دواء فى زجاجة .. فشربه .. ولكنه لم يتحسن وزادت حالته سوءا .. واحتار .. فيما يفعل فهو لايستطيع أن يذهب إلى المستشفى .. كما أنه لايستطيع أن يأتى بطبيب خاص إلى بيته ..
     وكان عنده عود لايستعمله فأرسل ابنته إلى محل يعرفه فرهنته .. ببضعة قروش .. وركب عربة إلى مستشفى عمومى .. وقال له الطبيب أنه مصاب بالتهاب رئوى .. ومع هذا فهو لايستطيع أن يدخل المستشفى لأنه لاتوجد أسرة .. وأعطاه الطبيب تذكرة الدواء .. وخرج إبراهيم يطوق صدره بذراعيه وسقط فى البيت .. على فراشه كالميت ..
     وفى صباح اليوم التالى .. وجد ابنته تقدم له الدواء .. وجاء من يحقنه بالبنسلين ..
     فسأل :
     ـ من أين جئتم بالفلوس ..؟
     فردت زوجته :
     ـ بعت الكردان .. وارتفع بهامته قليلا .. يتحسس عنقها .. فلم يجده .. فتألم لأن هذا الكردان .. فى عنق زوجته منذ عشرين سنة ..
     ولكنه ارتاح فى الوقت نفسه .. لأن ما ذهب يمكن أن يعوض .. وقد وجدت الأسرة ما تعيش به فى فترة مرضه .. وعجزه عن الكسب ..
     وكان يود أن يشفى سريعا .. ولكن مرضه طال .. حتى شعر بالقلق ..
     وكانت ابنته بثينة هى التى تمرضه .. وتسهر بجانب فراشه .. وذات يوم .. لم يجدها بجواره كالعادة .. وسأل عنها زوجته .. فقالت له أنها ذهبت عند جارتهم سكينة لتجىء بشىء وتعود حالا .. ولكن طال غيابها فتوجس شيئا .. وأمسك بذراع زوجته وهزها ..
     ـ إلى أين ذهبت .. هل بعثتها لأحمد أفندى .. كما كنت تفكرين .. وطبعا أنت عارفة الفتاة التى تشتغل عند رجل عازب .. تصبح .. إيه ..
     وهزها .. فحاولت أن تفلت منه .. ولكنه شد قبضته عليها .. وزحفت يده الأخرى على عنقها .. فوجد الكردان ..
     ـ ما هذا ..؟!
     وضغط على عنقها .. فصرخت .. ودخلت بثينة على صراخ أمها .. وحاولت أن تخلصها منه ولكنه أخذ يضرب الأثنين بعنف وبكل ما تبقى فى جسمه من قوة .. حتى خارت قواه .. فسقط فى مكانه .. وتركته المرأتان .. وجرتا إلى الخارج ..
***   
     ولما هدأ قليلا .. قالت له زوجته أن بثينة .. لم تخرج من البيت ولم تشتغل عند أحد وأنهم اقترضوا خمسة جنيهات من جارتهم السيدة سكينة .. وجاءوا له بالدواء والحقن .. فسكنت ثورته .. ورجع إلى نفسه ..
     وبعد أيام قليلة شفى .. ورجع يخرج مع ابنته وفى يده العود ..
***   
     وذات ليلة ممطرة .. وكانت السحب تجرى مذعورة فى السماء والمصابيح تلمع على الأرض المبللة .. سار إبراهيم تجره ابنته .. بعد جولتهما الليلية راجعين إلى البيت .. وكان الشارع خاليا من المارة .. فسمعا وهما يجتازان بعض الشوارع الضيقة فى حى معروف .. عزف مندلين فى الليل الساكن يأتى من بعيد .. وتمهلت بثينة .. وهى تسمع .. حتى عرفت الجهة التى يصدر منها الصوت .. وكان اللحن حزينا مؤثرا كأنه يصدر عن وتر يتمزق واقتربت من مكان العزف على مهل .. وعلى ضوء أحد المصابيح الكهربية .. وجدت رجلا يجلس على سور منزل قديم .. وقد احتضن المندلين .. وكانت ريشته تلعب .. وأخذ النغم يخف ويروق .. حتى أصبح أرق من النسيم .. ثم انقطع العزف .. برنة واحدة حزينة ..
     واقتربت بثينة مع والدها .. حتى وقفت على رأس الرجل .. وكان قد احتضن المندلين .. وسقط رأسه على كتفه ..
     وكان كل من يراه يتصور أنه فى غفوة قصيرة ..
     ولكن أصابعه المتقلصة على الريشة .. كانت تدل على أن يده كفت عن العزف إلى الأبد ..
     وسمع إبراهيم ابنته تنشج فى بكاء مكتوم ..
     فسألها :
     ـ أتعرفين الرجل ..؟!
     ـ إنه الفنان .. الذى أعطانا ثمن الدواء .. وأنت مريض .. وضعه تحت الباب .. ثم اختفى .. ولقد وجدناه الآن .. لنرد له النقود ..
     وخنقتها العبرات .. وأخذ والدها يدرك بقلبه .. كل شىء .. ثم انحنى على الفنان وغطاه بسترته ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بعددها رقم 226 بتاريخ 17/1/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " سنة 1960
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







الوشم

حدث فى أثناء أزمة المساكن بمدينة القاهرة .. أن أقمت مضطرا فى فندق السهم الذهبى .. بشارع شريف باشا .. فى غرفة رطبة تطل على المبنى الداخلى لبناء الفندق ..وكانت الغرفة معتمة وكئيبة وغير صحية بالمرة .. ومع هذا فقد أقمت فيها أربع سنوات كاملة لأنها قريبة من عملى فى محلات شملا ولأنه لم يكن من السهل على شاب مثلى ألف السكون أن يتنقل .. ولأنه لم يكن لأحد الخيار فى اختيار المسكن الذى يوافق كل الرغبات فى ذلك الوقت ..
وكان صاحب الفندق أجنبيا يدعى باولو .. وكان ينطق اللغة العامية بشكل يثير الضحك .. وكان غبيا بليد الذهن .. ولكنه كان بارع الحيلة فى الحصول على المال بكل الوسائل .. ولقد كان فندقه فى فترة الحرب .. ماخورا لجنود الحلفاء .. فلما انتهت الحرب ورحل هؤلاء فى غير رجعة أسف عليهم وعلى الخير الذى كان يعود عليه منهم .. وكان يود أن تظل الحرب دائرة إلى أبد الآبدين بصرف النظر عن ضحاياها ومآسيها وويلاتها .. مادامت تعود عليه بالمال من غير حساب ..
فلما أخذ المصريون يحتلون الغرف التى كان يحتلها الإنجليز .. استقبلهم بجفاء .. ولكن الخيار لم يكن له .. لأن الأمر خرج من بين يديه ..
وكان من طبعه أن يحاول أن يلقى فى روعك فى أول شهر من اقامتك أن فندقه فوق مستوى الشبهات محترما وأنظف من البللور .. ولا محل للنساء الغانيات وبنات الهوى فيه .. فإذا اطمأن إليك .. جلب إليك بنفسه الفتيات من كل الأجناس يقرعن عليك الباب فى هدأة الليل ..
وكان يقيم فى الجناح الذى أقيم فيه مصرى واحد .. يدعى مختار أفندى .. وكان موظفا أعزب تجاوز الخمسين من عمره .. وكان بدينا .. قليل الحركة .. ويحمل وجها مكورا .. وعينين شهلاوين ..
وكان من اللحظة التى يدخل فيها الفندق حوالى الساعة الثالثة بعد الظهر لايبرحه بعدها قط فقد كان يأكل الوجبات الثلاث فى غرفته .. ولم يكن من عشاق السينما أو المقاهى الليلية ..
وقد أغنانى وجوده معى فى جناح واحد عن التردد على المقاهى كل ليلة لأنه كان أنيسا ومحدثا بارعا خفيف الظل ..
وكان مرهقا بالشحم كسلان إلى حد بعيد .. فقد كان يجلس فى بهو الفندق ثلاث ساعات كاملة دون أن يحرك .. حتى رجليه ..
والواقع أن كسله هذا كان يحيرنى .. وكنت أسائل نفسى ما الذى يمكن أن يعمله رجل مثل هذا فى مصلحة حكومية ..
ولكننى كنت استريح فى كثير من الأحيان لبلادته هذه لأنه علمنى الصبر وعلمنى القعود فى مكان واحد .. دون غرض بعينه ..
وكان يعنى بنظافة ثيابه وهندامه .. ويأكل بشراهة ونهم كما يأكل الثور .. وقد سبب له الأكل الكثير من الأمراض والمتاعب ..
وكان يتأنق فى ملبسه .. كأى رجل نموذجى .. وفيما عدا الدائرة الخارجية عن نطاق نفسه .. كان شحيحا إلى أقصى الحدود .. كان شحيحا بخيلا فى كل مايتعلق بالآخرين .. وكان عنده جميع الأشياء التى يمكن أن يحتاج إليها الإنسان الذى يعيش وحده .. كان عنده الخيط .. والإبره .. والمقص .. والأسبرين .. وروح النعناع .. وزيت البرافين .. والكحول النقى .. وروح النشادر .. ولفات القطن .. والضمادات .. وصبغة اليود .. والكولونيا .. والروائح العطرية ..
وذات أمسية .. من أمسيات الآحاد .. سمعنى وهو داخل .. ألعن خادم الفندق .. لأنه لم يستطع أن يجد لى فكة ورقة بخمسة جنيهات فى الكيس .. فقال لى بعد أن انصرف الخادم :
ـ أتريد فكة .. يا لطفى أفندى ..؟
ـ اعمل معروف .. الخواجه بيعذبنى كلما طلبنا منه فكة ..
ـ لاتفك منه أن نقوده زائفة .. فلا يزال عنده بقايا من الأوراق المالية الزائفة التى كان يطبعها الإنجليز أيام الحرب ..
وضحكت ..
ودخلت معه غرفته وبعد أن أغلق وراءه الباب .. أخرج مفتاحا صغيرا من جيبه .. ثم فتح درجا فى الدولاب .. ومن درج الدولاب أبرز مفتاحا آخر .. وفتح به درج الشوفينير ..
وفتح علبة .. ورأيت لفة من الأوراق المالية مربوطة بخيط رفيع وفك لى الورقة .. وأغلق الدرج بعناية .. وأعاد المفتاح إلى مكانه .. بحرص ..
وسألته :
ـ لماذا لاتضع هذه النقود فى البنك ..؟
ـ أنها تحت يدى فى كل لحظة .. وهذا خير من أن تأخذهم وزارة الأوقاف ..
وأخذ يحدثنى بأنها الوريثة الوحيدة له وأنه مقطوع من شجرة وأنه بدأ فى هذه السن يحس بمرارة الوحدة .. وعرفنى بأن جده جاء من المغرب .. واستوطن المنصورة .. وتفرقت الذرية .. ذهبت إلى الشام .. والأناضول .. حتى بدا له أنها انقرضت .. وبقى هو فى مصر يحس بنفسه وحيدا ..
وقال لى أنه توظف فى الحكومة عندما كان فى الثامنة عشرة من عمره .. لأنه يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة .. وكان فى شبابه يريد أن يتزوج فتاة مصرية .. ولكنه بعد أن تعدى سن الثلاثين .. عدل عن الزواج كلية .. ولم يعد الأمل يراوده أبدا ..
وعرفت منه أنه لم يبرح القاهرة أبدا .. أكثر من مرتين إلى الإسكندرية طوال حياته .. ولم أعجب وأنا أسمع هذا منه لأننى قد لمست قلة حركته وحبه للإقامة فى مكان واحد ..
وكانت تأتى إليه سيدة .. متوسطة العمر رقيقة الحال فى بعض الليالى فيغلق عليها الباب ..
وكانت وهى خارجة .. تلف مابقى من طعامه فى ورقة .. ويكتسى وجهها بأسى أخرس يهز مشاعر النفس ..
وقال لى لما رآنى أشاهدها وهى داخلة غرفته أكثر من مرة أنه يرعى شئونها لأنها قريبة صاحب له من المنصورة ..
وكانت سيدة خجولا ولم تكن بالجميلة .. ولكنها كانت طيعة قليلة الكلام .. تتحدث أبدا بصوت خافت كالهمس ..
وكانت بعد أن تذهب يبدو مختار أفندى فى أحسن حالاته .. ويتبدد خموله وينشط نشاطا عجيبا لمدة ساعة ..
وتهزه أريحية الكرم مع شحه الشديد .. ويطلب لى زجاجة كوكاكولا .. ثم فنجانا من القهوة ..
وكان يعطى هذه السيدة مبلغا ضئيلا فى كل مرة تأتى فيها .. وكنت ألاحظ أنها تخفى بعض هذه النقود فى طيات صدرها .. وتدع الباقى فى يدها ..
وكنت أتصور أنها تبقى هذا المبلغ فى يدها لتشترى به شيئا وهى ذاهبة إلى بيتها .. ولكننى رأيتها ذات ليلة تناوله فى خفاء لصاحب اللوكاندة .. وتملكنى الغيظ .. وتحسرت على هذه المسكينة .. لأن مختار أفندى كان لايعطيها إلا قروشا قليلة .. وقد استغل صلتها القديمة به إلى أبعد الحدود ..
وكان بخيلا بطبعه ولكن بخله كان يتضاعف معها ويصل إلى حد البشاعة ..
ولم أكن أدرى لماذا هو مسيطر عليها هكذا .. ولماذا استمرت علاقتهما طوال هذه السنين .. ويبدو لى أنها كانت امرأة متحصنة .. وأنه أوقعها تحت سطوته لطول العشرة ولرقتها وفقرها .. ولم يكن من السهل عليها ولخجلها أن تركن إلى رجل آخر ..
وكان هو يبدو لها وهى فى دوامة الحياة .. كشاطىء الأمان مهما تكن صفاته ..
وكانت كبعض النساء الساذجات تتصور فى أعماقها أنه زوجها .. لتخفف عن نفسها عذاب الدنس ..
وحدث أن انقطعت عن زيارته .. مدة اسبوعين فسألته عنها وكان يحلق ذقنه فى حجرته .. ودخل علينا غلام فى العاشرة من عمره فى أثناء الحديث .. فقال لى باسما :
ـ هاهو ابنها ..
ولاحظت .. أنه يشبه مختار أفندى كل الشبه .. فيه كل ملامح وجهه .. ونظرت إليه فأدرك .. أننى لاحظت الشبه الشديد .. الذى بينه وبين الغلام .. واحمر وجهه ..
ولما طلب منه الغلام .. جنيها .. لأن أمه مريضة ..
قال له بغلظة :
ـ اشتغل .. خل أمك تبحث لك عن شغله .. عند مكوجى .. لتوكلها وتعولها إنك لست بالصغير ..
فقلت له :
ـ اعطه شيئ الآن .. أنه صغير ..
ـ أبدا .. ولامليم .. لقد أخذت منى مئات الجنيهات دون مقابل .. من خمس عشرة سنة وأنا أصرف عليها .. ومن الآن كفاية ..
وخرج الغلام وهو يبكى ..
وانفعل مختار أفندى بعد أن تركنا الغلام .. وظهر على وجهه الغضب .. لأنه كان يكره كل شخص يطالبه بنقود .. ولأن سره انكشف أمامى .. والغلام ذكره بوزره القديم .. وأخذه الربو ..
وكان ينتابه فى بعض الأحيان ثم يمر بسلام .. ولكنه فى هذه المرة اشتد عليه فسهرت بجانبه حتى ساعة متأخرة من الليل ثم تركته لينام ..
وجاءنى خادم الفندق بعد ساعة يقول لى إن مختار أفندى يريدنى على عجل .. فلما دخلت عليه وجدته ممتقع الوجه .. وفى شبه غيبوبة حتى أصبح لايعرفنى ..
فطلبت من العامل الجالس فى مكتب الاستقبال بالفندق أن يطلب لنا أى طبيب ليعطيه حقنة مسكنة والظاهر أنه لم يجد طبيبا يلبى طلبه فى هذه الساعة من الليل فأرسل تمرجيا أعطاه حقنة ..
وهدأ بعدها مختار أفندى .. ولكن لما دخلت عليه .. بعد ربع ساعة .. وكانت غرفته مواربة .. وضوءها لايزال مضيئا .. وجدت وجهه أزرق .. وكان مفتاح الشوفينير الذى يضعه دائما فى الدرج على طاولة بجانبه فأدركت أنه احتاج لأن يعطى التمرجى بعض النقود .. ثم نسى المفتاح فى مكانه ..
ثم توجست شرا .. وخفت أن يكون المبلغ قد عبث به أحد الخدم فى الفندق .. ففتحت درج الشوفينير بحذر .. ويدى ترتعش .. ووجدت النقود فى مكانها فأعدت إغلاق الدرج الأول .. ثم الدرج الثانى .. كما كان يفعل مختار أفندى وأحدثت هذه الحركة صوتا أفزعنى ..
وبعد دقيقة وجدت نفسى أعود وأفتح الدرج .. الأول ثم الثانى ..
ونظرت إلى النقود طويلا ثم وضعتها فى جيبى بسرعة .. وأعدت اغلاق الدرج .. حدث هذا فى سرعة عجيبة كأن شيئا لولبيا يحرك يدى .. وتصلب جسمى لمدة دقيقة ثم عاد كل شىء لحاله .. بعد أن أدركت أنه لا أحد يمكن أن يكون قد رآنى وأنا أفعل هذا ..
وقلت لنفسى إن عاد إلى وعيه .. وسأل عن النقود فسأقول له بأنى خشيت عليها من السرقة فحفظتها عندى ..
وفى الصباح ..
سمعت جلبة .. وصوت اسماعيل خادم الجناح يقول لكل من يقابله .. مختار أفندى مات ..
وكان قد حمل له صينية الشاى فوجده ميتا ..
وبقيت فى غرفتى .. لا أبرحها ويدى تضغط على الأوراق المالية ..
ولما دفنوا الرجل فى العصر .. لم أستطع أن أحضر جنازته .. لأنى كنت فى عملى وكنا نجرد المخازن الجرد السنوى ..
وفى الليل اشتريت حزاما جلديا .. ووضعت النقود على بطنى .. فوق معدتى مباشرة وكنت أحملها على لحمى وأدور بها فى كل مكان ..
ومرت شهور .. ولم أصرف من الألف جنيه التى تخص الرجل مليما واحدا .. وكان ضميرى يؤنبنى وأحس بمثل وخز الإبر فى بطنى وشىء حاد يمزق أحشائى تمزيقا ولكننى مع ذلك لم أغير وضع النقود .. من الحزام .. ولم أرفع الحزام عن لحمى ..
وكنت أود أن أعطى السيدة المسكينة التى كانت تزور مختار أفندى نصف المبلغ .. من أجلها ومن أجل ابنها .. وابنه .. ولكن بعد أن مرت الشهور ولم أقابلها عدلت عن هذه الفكرة .. وأصبحت النقود لى وقطعة من لحمى ..
وانتقلت بعد سنة إلى عمل آخر فى مدينة الإسكندرية كنت أود أن اشتغل وأعمل لنفسى .. ومرت سنوات وأنا فى عملى الجديد وضاع فى غمار هذه السنوات المبلغ الذى اغتصبته من الرجل ونسيت الحادث كلية .. وحتى وجه مختار أفندى .. نسيته .. اختلط .. مع كثير من الوجوه التى أراها فى الحياة ..
وذات مساء شعرت بضعف شديد وألم فى بطنى .. وتصورته من أثر التعب فى العمل فتركت المسألة ..
ومرت الأيام .. وأنا أحس بأننى أزداد فى كل ساعة تعبا وسوءا ..
ثم اشتد الألم .. فعرضت نفسى على طبيب .. فأرسلنى فى الحال إلى طبيب آخر ليعمل لى أشعة .. على معدتى .. وعمل الطبيب الأشعة .. وأرانى الصورة ووجهه ينطق بالعجب ..
فقد رأيت صورة عجيبة صورة سلبية للفة من الأوراق المالية فى داخل معدتى ..
لقد حملت الوزر ودرت به .. فانطبعت الصورة على لحمى كالوشم وأنا لا أدرى .. لقد حملت شعار الجريمة التى كنت أتصور أنى أخفيتها عن الناس جميعا ..
وسألت الطبيب :
ـ ماهذا ..؟
ـ لا أدرى ..
ـ .. سر .. سر .. سرطان ..
قلت هذا وفمى يرتعش وفى عينى تجول الدموع ..
ـ يحتمل ولكنى غير متأكد سنأخذ لك صورة أخرى .. فى وقت آخر غدا فى الصباح ..
قال الطبيب هذا بهدوء .. وبصوت خال من العواطف ولم يكن يدرى أنه يرسم بدقة .. وقسوة خط حياتى ..








ـــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى م . الجيل بالعدد 378 بتاريخ 23/3/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــــ
  







فتاة من هونج كونج

ذهبت إلى مدينة هونج كونج فى الصيف الماضى لمهمة تجارية قصيرة .. وحرصت على أن أنزل فى فندق البحار السبعة الذى بشبه جزيرة " كاولون " لأنى اعتدت أن أنزل فيه كلما قصدت هونج كونج ولأنه يتميز بالهدوء والجمال والقرب من المطار .. وكان مزدحما بالنزلاء كالعادة .. ووجدت غرفة خالية بحمام خاص فى الدور التاسع .. وكانت صغيرة جدا .. ومنعزلة فى آخر صف فى الجناح وتصل إليها بعد أن تجتاز طرقا ملتوية .. كما كانت تطل على المناور الداخلية للفندق وعلى المحركات الضخمة وآلات التبريد .. ولكن مع هذا كله قبلتها لأنها مكيفة الهواء ولأنه ندر أن تعثر على غرفة بحمام .. فى أى فندق آخر فى ذلك الوقت من السنة ..
واستيقظت مبكرا لأشاهد المدينة الساحرة وهى تفتح أجفانها وتستقبل أشعة الشمس .. ولأعبر الخليج إلى مدينة هونج كونج نفسها حيث أقابل المستر يونج وكان متجره فى شارع دى فو ..
وأنجزت عملى كله فى ثلاث ساعات بالسرعة والصراحة اللتين يتميز بها التجار الصينيون فى هذه المدينة العديمة النظير .. وخرجت أجول فى المدينة ولما عدت إلى الفندق لأتغدى وجدت ميعاد الغداء قد فاتنى .. فرأيت أن أغتسل .. ثم أخرج إلى أى مطعم شعبى من التى لاتتقيد بمواعيد الطعام ..
ولما دخلت الحمام لم أجد ماء فطلبت الخادم وحدثته بالأمر ..
فأخبرنى أن الماء ينقطع عن المدينة فى مثل هذه الساعة ..
وأشار بأدب إلى لافتة مطبوعة بحروف كبيرة وموضوعة تحت بللور المكتب .. وكانت تشير إلى هذا وكنت لم أتنبه إليها فطلبت منه زجاجة من الماء .. وعدت أفحص الغرفة مرة أخرى وأقرأ اللافتة بدقة .. حتى لايفوتنى الطعام مرة ثانية .. ولأعرف مواعيد انقطاع المياة ..
وجاء الخادم بدورق من الماء المثلج .. وكنت أود أن أحلق ذقنى .. فطلبت منه ماء ساخنا .. فاعتذر وهو ينحنى وقال لى أنه لايوجد إلا الماء المثلج فى مثل هذه الساعة .. فغضبت منه .. وعنفته لأنه لم ينبهنى فى الصباح وأنا خارج إلى انقطاع الماء لأنه قل من النزلاء من يلتفت إلى اللافتات الموضوعة فى غرف الفنادق .. وانصرف وهو يكرر أسفه .. وسمعت من يقول بصوت ناعم :
ـ سأعطيك زجاجة ساخنة من عندى ..
وتلفت فوجدت فتاة تطل من باب الغرفة المواجهة لغرفتى .. وكانت عارية الشعر وحافية .. وفى قميص ممزق .. فنظرت إليها مأخوذا بشكلها .. ودخلت وعادت بالزجاجة فتناولتها منها وأنا أشكرها ..
ورأيت أن أبقى بابى مواربا ولا أغلقه فى وجهها .. مادامت هى لم تغلق بابها .. ولما حلقت ذقنى وارتديت بدلتى .. حملت إليها الزجاجة الفارغة ونقرت بخفة على بابها .. وسمعت صوتها من الداخل يقول بالإنجليزية :
ـ أدخل ..
ودخلت .. وكانت غرفتها أصغر من غرفتى .. ووجدت الفتاة فى الحمام تدعك شيئا فى يديها .. وكانت رغاوى الصابون تداعب صدرها وذراعيها .. وكأن البشرة الناصعة لاتريد أن تشرب أكثر من هذا المزيج .. فظل الصابون يتبلور .. ثم ينتفخ كالبالون ..
وكان القميص الذى يضم الجسم المائل على الحوض ممزقا فى أكثر من موضع .. وكان هناك شىء كاللهب فى الجانب المنتهى على الفخذ الأيمن شىء كحرقة السيجارة .. ثم انطفأ سريعا .. وأدارت رأسها لى لما رأتنى لاأزال أحمل الزجاجة .. وقالت برقة :
ـ ضعها .. هناك .. أرأيت أننى أغسل ملابسى بنفسى ..
ـ هذا حسن ..
ـ إننى فتاة فقيرة .. والغسيل فى الفندق يكلفنى كثيرا ..
ونظرت إليها وهى تتحدث وتغسل ملابسها .. ولم يكن وجهها صينيا خالصا .. كان مزيجا من الملامح الشرقية والغربية وكان أقرب إلى أهل الشمال ..
وكانت البشرة أكثر صفاء ونعومة من بنات الجيشا فى اليابان والعينان أشد سوادا من حسان بوخارست ..
وانحنت أكثر وهى تعصر الملابس .. وبدأ الخط المستقيم من سلسلتها الفقرية إلى جيدها .. إلى شعر رأسها .. كأنه يلتوى ويتمزق ..
وبدا لى أن الذى يتمزق ليس هو ثوبها وإنما الياف لحمها الدقيقة ومن خلال العرق الذى أخذ يتجمع كحبات الدر .. على خدها .. نظرت إلى وجهها وبشرتها الناصعة وبدا لى عن يقين أنها مزيج من الجنس الآرى والسامى معا وأنها جمعت كل الجمال .. وكل محاسن البشر ..
وانتصبت لما رأتنى أستدير .. لأخرج وواجهتنى وقالت :
ـ إلى أين أنت ذاهب .. فى مثل هذه الساعة ..؟
ـ فاتنى الغداء .. وسأبحث عن مطعم .. وربما ذهبت إلى أبردين ..
ـ إنه مكان جميل .. ويجب أن ترى هؤلاء الصيادين الذين يعيشون دوما فى الماء أنهم كغجر الدانوب ..
ـ يسعدنى لو رافقتنى فى هذه الرحلة ..
ـ ولمن أترك هذه الملابس .. يجب أن أنشرها وأكويها .. بيدى اليوم .. وإلا ما وجدت ما البسه غدا .. إننى فقيرة .. ومات أبواى فى الحرب .. وتركانى طفلة يتيمة .. للحياة ..!
ـ الحرب هنا ..؟
ـ أجل .. أثناء غزو اليابان للمدينة ..
ـ آه تذكرت ..
ـ لماذا يحمر وجهك وأنت تحادثنى .. هل كانت والدتك تمنعك من اللعب مع البنات وأنت صغير ..
ـ أننا لانلعب مع البنات .. ونحن صغار ..
ـ مع من تلعب إذن .. أيها الثعلب ..؟ إن فى عينيك ألوانا .. وألوانا من النساء .. لاتحاول الإنكار ..
واحمر وجهى مرة أخرى ..
وقالت وأنا أتجه إلى الباب :
ـ لا تنس أن تملأ البانيو فى الصباح قبل أن تخرج ..
ـ وهل سينقطع الماء لمدة طويلة ..؟
ـ ربما استمر .. أسبوعا .. أو أكثر .. وإنك لا تستطيع أن تفهم شيئا من خدم الفندق .. أنهم بلهاء ..
وأحنيت رأسى وخرجت ..
وأصبحت أرى هذه الفتاة .. كلما دخلت غرفتى أو خرجت منها .. وكانت دائما تترك بابها نصف مفتوح .. وترتدى ثوبا واحدا لا تغيره أبدا .. ولم يكن كثياب الصينيات مشقوقا عند الفخذين .. بل كان ثوبا أوربيا يتمزق نسيجه فوق جسمها إذا قامت بأدنى حركة ..
ومن وقت حادث الماء وأنا أكتفى بالنظرة الباسمة إليها والتحية العابرة من بعيد وكانت مشاغلى فى الواقع لاتزال تبعدنى عنها ثم أنى لم أكن حتى هذه الساعة .. قد استطعت أن أتبين جنسيتها أو أعرف اسمها ولم أشأ أن أسأل عنها لأستوضح شخصيتها .. ووجدت أن غموضها هكذا أكثر إثارة وبهجة لى ..
وحدث شىء جعلنى أدخل حجرتها مرة أخرى .. فقد تمزقت سترتى وأنا خارج من المصعد ولم يكن معى سوى هذه البدلة ولما أعطيت السترة للخادم لإصلاحها عند الرفاء .. قال لى أنه لايمكن أن يصلحها قبل أسبوع .. لأنها لابد أن تأخذ دورها ..
ورأت الفتاة الخادم وهو يعيد إلىَّ السترة .. فتناولتها منى فى صمت .. ودخلت بها غرفتها ودخلت وراءها ..
وجلست على الفراش ترتقها وجلست بجوارها على الكرسى الوحيد فى الغرفة .. وسألتنى وهى تعمل بإبرتها فى سرعة عجيبة ..
ـ ما الذى تعمله فى هونج كونج ..؟
ـ إننى أتاجر فى اللؤلؤ ..
ـ لؤلؤ حقيقى ..؟
ـ لا .. لا مزروع ..
ـ ولماذا لا تذهب إلى اليابان إذن ..؟
ـ إننى أتعامل منذ سنوات مع تاجر صينى بشارع دى فو .. وأستريح إلى معاملته ..
ـ وهل أنت باكستانى ..؟
ـ أننى مصرى .. وأقيم بالقاهرة .. هل فكرت فى زيارتها ..
ـ ولماذا لا .. أعطنى أولا بساط الريح ..
ـ وما الذى تعملينه أنت ..؟
ـ أنا ..
ـ أجل ..
ـ لاشىء .. لاشىء .. كما ترى ..
ـ لاشىء ..! لاعمل لك على الاطلاق ..؟
ـ لاشىء اطلاقا .. أى عمل يمكن أن أقوم به .. أننى أتمدد على الفراش وأسترخى .. وأسترخى .. وأغلق عينى ..
ـ وهل هذا عمل ..؟
ـ أنه ممتع .. بل أمتع شىء على الاطلاق ..
ـ لا أحد يستطيع أن يفعل مثلك ويحبس نفسه فى غرفته ويظل يحلم ..
ـ حاول وسترى أنه ألذ شىء ..
وتركتها تنتهى مما فى يديها وأخذت أنظر إلى غرفتها وكانت مع صغرها وقلة الأشياء التى فيها مرتبة وأعقاب السجائر تملأ المنفضة ومائدة الزينة غير منتظمة وكل شىء يدل على استرخاء وكسل ..
وفرغت من الجاكتة ونهضت لتلبسها لى .. وعندما ضمتها بيديها على صدرى ألقت علىَّ نظرة آسرة .. فأمسكت بذراعيها وشددتها إلى صدرى .. ورحت أشرب من رحيق شفتيها ..
***
وتركت هونج كونج وأنا أشعر بالألم لفراق الفتاة .. سافرت فى مهمة إلى بانكوك .. ورجعت منها إلى هونج كونج مرة ثانية .. ولكننى لم أجد الفتاة فى الفندق ..
وبعد أربعة أيام اتجهت إلى القاهرة .. فى طائرة جبارة .. واتخذت طريق أوربا وفى مطار زيورخ استرحنا ساعة .. ثم عدنا إلى الطائرة .. وجلست على كرسى وأنا أنظر من النافذة .. إلى الفوانيس الصغيرة التى على الأرض وهى تتلألأ كحبات الزمرد ..
ثم سمعت صوتا ناعما .. صوتا سمعته من قبل وأعرفه جيدا .. يقول بالإنجليزية :
ـ أربطوا أحزمتكم ياسادة .. أننا نحلق ..
ونظرت فوجدت فتاة الفندق ..
وكانت قد وقفت فى الممر بلباس الطيران التقليدى ونظرها على الركاب ..
وغصت فى الكرسى وأغلقت المصباح الصغير الذى فوق رأسى .. وأدرت زر الهواء إلى آخره .. فقد أحسست بالعرق .. واحمر وجهى إلى أقصى درجة ..
ــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــــــ
 




الجــرس


     شعرت وأنا فى طوكيو بألم حاد فى ضرسى لم أعرف سببه .. ولما كنت لا أستطيع أن أتحرك خطوة .. فى هذه المدينة الحالمة وأنا أحمل هذا الصاروخ بين فكى .. فقد أسرعت فى الحال إلى أول طبيب أسنان عرفته من الدليل ..
     وفحصنى الطبيب الشاب من رأسى إلى قدمى .. كأننى سأشتغل طيارا ..
      ثم قال فى هدوء :
     ــ إن الضرس سليم ..
     فسألته فى استغراب :
     ــ وما الذى يوجعنى أذن ؟..
     ــ أعصاب اللثة .. إنها التى تصرخ ..
     وأطرق برهة ثم سألنى كأنه يرتب أمرا ..
     ــ كم يوما ستبقى فى طوكيو ..؟
     ــ ربما شهر وأكثر ..
     ــ حسن جدا .. يكفى أسبوع واحد للعلاج ..
     وتحدث توا مع مساعدته الحسناء باليابانية .. فأخذتنى إلى غرفة مجاورة .. حيث غسلت فمى بكل أنواع المطهرات .. ثم غرست فى لحمى إبرة .. وانصرفت على أن أعود فى اليوم التالى .. لأواصل العلاج ...
     والواقع أننى كنت أستطيع أن أنقطع عن التردد على العيادة بعد هذه الحقنة فقد زال الألم تماما .. ولكن الحى كله جذبنى بجماله الباهر .. وجعلنى أحس بحنين بالغ إلى زيارته مرة أخرى ..
     وكان فى البناية الملاصقة لعيادة الطبيب منزل قديم من طابقين وكان متجرا لبيع التحف الثمينة والتماثيل ..
     ولاحظت على بابه الزجاجى جرسا صغيرا .. يتحرك .. كلما تحرك الباب كأنه ينبه من فى الداخل لكل من يتخطى العتبة .. وكان هذا الشئ العتيق غريبا فى اليابان الحديثة التى يتحرك فيها كل شئ أتوماتيكيا .
     وكان الأغرب من هذا مارد ضخم جثم فى مدخل الباب .. ولم يكن فيه شئ من ملامح الرجل اليابانى أو قامته .. وكان يرتدى سترة وسروالا أسمرين ويلبس حذاء طويل العنق .. وكان رأسه أصلع يلمع وشاربه كثا طويلا يتدلى على جانبى فمه ..
     وكان يذرع طوار المحل فى حركة رتيبة بطيئة وهو يدخن .. كأنه الأسد فى عرينه ثم يعود إلى الكرسى فيجلس عليه متحفزا للقيام فى كل لحظة ..
     ولم أكن أدرى علاقته بالمتجر على وجه التحديد .. ولكن طول قامته .. والجرس الذى يرن فوق رأسه .. استرعيا نظرى ..
     وفى عصر يوم ولجت باب المحل .. وحيانى الرجل العملاق وأنا داخل ... فأحنى رأسه مرتين على عادة اليابانيين وفتح لى بيده الباب .. وسمعت رنين الجرس .. واستمر الرنين عدة ثوان حتى بعد أن جاوزت المدخل ..
     ورأيت فى المتجر .. كل أنواع التحف الغريبة .. أوانى المائدة التى تعزف الألحان الموسيقية .. وعلب السجائر التى تعزف نشيد شهرزاد .. والأكواب التى تنشد الأغانى اليابانية .. وتماثيل بوذا من الذهب الخالص ..
     وكان فى المحل أكثر من عشرين فتاة من العاملات فى سن واحدة وعلى مستوى واحد من الجمال الفتان ..
     وكان منظرهن ببشرتهن الناصعة البياض فى المرايل الزرقاء والشعر الأسود المعقوص على الطريقة اليابانية .. يأخذ بلب السائح أكثر من النفائس التى فى المتجر ..
     ووقفت أمام صف التماثيل .. فأعجبنى تمثال صغير لبوذا من الخزف دقيق الصنع .. ولكننى خشيت أن يتحطم من سفرى الطويل .. وحدثت الفتاة العاملة بمخاوفى فقالت لى أن فى الدور الأرضى تماثيل معدنية من النحاس والذهب والفضة الخالصة تصل سليمة إلى أى مكان .. دون أن يصيبها أقل خدش .. مهما كان السفر ...
     واتخذت طريقى إلى السلم الهابط .. ولكن قبل أن أضع قدمى على أول درجة .. سمعت من يقول بصوت ناعم بالإنجليزية ..
ــ سأريك الطريق ...
     فتلفت ورائى .. فوجدت سيدة أنيقة كنت قد رأيتها واقفة فى البهو وانا داخل وعرفت أنها زوجة صاحب المتجر ..
     وقادتنى وهى تنساب أمامى فى رشاقة إلى العاملة التى سترينى التماثيل .. فهبطت هذه فى قبو .. معتم .. خفت أن أمضى فيه وحدى مع الفتاة .. لولا أن المدام شجعتنى بنظراتها .. ثم رأت أخيرا أن تنضم إلينا وأصبحنا الثلاثة فى دهليز طويل .. كأنه الطريق الداخلى للهرم وكنت أحس بأنفاس المرأة .. وأشم عطر الفتاة التى أمامى ثم بلغنا حجرة واسعة فيها كل أنواع التماثيل والتحف النادرة ..
      ورأيت عربة جميلة يجرها ستة جياد مطهمة .. وكانت تمثل القيصر نقولا .. وهو ذاهب إلى الأوبرا .. وكان كل جزء من التمثال يعد وحده تحفة نادرة الصنع ..
     وسألت المدام ..
     ــ أهذا صناعة يابانية ..؟
     ــ إنها روسية خالصة .. وسأجعلك تتأكد من ذلك ...
     وكلمت الفتاة .. فصعدت هذه سلما صغيرا .. لتأتى بالعربة ..
     وبدا من سيقان الفتاة وفخذيها .. وهى واقفة على السلم أكثر مما ينبغى ولاحظت نظراتنا فحاولت أن تخفى عريها .. وكانت هذه الحركة منها .. أكثر إثارة من الموقف نفسه ..
     فضحكت واهتزت ولم تستطع أن تحمل التمثال .. وقالت لها المدام وهى تبتسم وقد أدركت بغريزتها الموقف .
     ــ انزلى .. يا اسوارا .. واستدعى .. سيمونوف ..
     ونظرت إلىَّ بعد أن خرجت الفتاة من الدهليز .. وهى تضحك ..
     ــ إنها طفلة ضاحكة ..
     ثم تأملتنى مليا .. كأنها ترانى لأول مرة بكل صفاتى .. وسألت برقة ..
     ــ هل أعجبتك طوكيو ... ؟
     ــ رائعة ...
     ــ وإلى متى ستبقى فيها ..؟
     ــ إلى أن تطردونى منها ..
     ــ إنك لن تطرد أبدا .. إننا نرحب بك مهما طالت إقامتك ..
     ــ لقد قررت من هذه اللحظة أن أعيش فى طوكيو ..
ولم تعقب .. وابتسمت .. بكل جمال .. وبدت فى هذا الضوء الخافت .. وهى وحيدة معى ... أشد فتنة مما رأيتها فى الدور العلوى .. وأخذت أنظر إليها صامتا فى وله ..
     ورأيت أنوثتها تجذبنى إليها بقوة .. وأخذت أتأمل كل قوامها .. ولاحظت.. كدمة .. أو ضربة بآلة حادة تحت عنقها .. ولكنها أخفتها ببراعة تحت ثوبها ..
     وكانت واقفة قريبا منى .. وبدت من يدى حركة .. وأنا أشد إلى بعض التحف فلاحظت أنها جفلت .. كأنها تتصور أنى سأضربها ..
     ثم استفاقت وقالت .. وقد شعرت بالخجل :
     ــ لا أدرى ما الذى جرى لى ....
     فابتسمت وقلت ..
     ــ أن هذا يحدث لكل إنسان ..
     وسألتنى وعيناها تفحصانى بدقة :
     ــ ما اسمك ؟
     ــ سليمان ..
     ــ باكستانى ..؟
     ــ لا .. مصرى ..
     ــ أوه عظيم ...
     ــ ما الذى تعمله ...
     ــ لاشئ فى الوقت الحاضر ....!
     ــ لا شئ ..؟!
     ــ لا شئ إطلاقا ....!
     وضحكت بكل جسمها ثم قالت وهى ترخى أهدابها ..
     ــ إذن سأجعلك مديرا للمتجر ..
     ــ ما أعظمه من عمل !
     ووقفت أحلم بالعمل معها تحت سقف واحد .. واستفقت من أحلامى على أقدام سيمونوف وهو يقرع السلم .. وعندما رآنى أقف وحدى مع المدام رمانى بنظرة صاعقة على خلاف النظرة التى لقينى بها وأنا داخل المحل..
     وانتصب فى الممر كالفارس وأشارت له المدام بيدها فهز رأسه وأدركت لأول مرة أنه أبكم ..
     وصعد درجتين من السلم .. وأنزل العربة بسهولة وعناية ولما وضعها على الطاولة خرج يمسح يديه ..
     وأخذت أنظر إلى التحفة فى إعجاب ..
     وسألتنى المدام :
     ــ أعجبتك ..؟
     ــ إنها رائعة .. بكم تبيعينها .؟
     ــ بمائة جنيه .
     ــ أليس هذا كثيرا ..؟
     ــ إنها تساوى ألفا ....
     ونظرت إليها .. وكانت تبتسم فى نعومة ولم أكن أحب أن أقطع هذا الخيط الذى يصلنى بها .. فقلت ..
     ــ هل يمكن ان تبقيها فى مكانها إلى الغد .. أحب أن أراها مرة أخرى ..
     ــ كما تحب ..
     ومشت معى إلى الخارج .. وعلى باب المتجر .. كان الرجل المارد فى مكانه .. وفتح لى بيده الباب وسمعت قرع الجرس أكثر وضوحا ..
***
     وفى اليوم التالى .. أخذت فى لهفة أسأل مساعدة الطبيب .. وهى تعد لى الإبرة .. عن المتجر وعن المدام صاحبته على الأخص .. وقالت لى الفتاة كل ما تعرفه ..
      قالت لى إن صاحب المتجر وزوج المدام الأول كان روسيا .. ومن أشهر تجار التحف فى طوكيو .. وكان يأتى بالأشياء النادرة من روسيا مباشرة قبل الثورة الحمراء وعاش مدة طويلة فى طوكيو .. فاستوطن فيها وأصبح من أهلها وتزوج هذه الحسناء اليابانية التى تدير المتجر الآن ولما مات لم تكن قد أنجبت منه فورثت المتجر وتزوجت ..
      تزوجت رجلا يابانيا يدعى ايجاكوشى وهو سكير لا يفيق من السكر ويذهب كثيرا إلى يوكوهاما .. فى بعض أعماله ولذلك لا تراه فى المتجر إلا نادرا ..
     أما الحارس الذى على الباب فهو قوقازى .. جاء مع الرجل الأول ...
***
     ولما ذهبت إلى المحل .. عصر اليوم التالى .. اشتريت العربة .. وحملها سيمونوف إلى السيارة .. ولم أنقطع ــ بعد شراء العربة .. وبعد انتهاء أيام العلاج عند الطبيب ـ عن التردد على المتجر .. كنت أذهب إليه كل يوم تقريبا وأشترى أى شئ مهما صغر ..
      وأصبحت المدام تعرفنى معرفة أكيدة وكنت كثيرا ما أراها فى شوارع طوكيو نتبادل التحية من بعيد ورأيتها ذات ليلة منطلقة فى عربة فخمة حول قصر الإمبراطور وكانت فى تلك اللحظة مثال المرأة اليابانية الأرستقراطية .. فى أناقتها وزينتها ولم يكن معها زوجها كانت تقود العربة الطويلة وحدها ولما رأتنى .. ابتسمت فى نعومة فأحنيت لها رأسى مرتين ..
     ولما ذهبت إلى المتجر فى اليوم التالى .. وقفت أتحدث مع مدام ايجاكوشى قبل أن اشترى شيئا .. وعرفت الفندق الذى نزلت فيه والأماكن والملاهى التى شاهدتها ..
      وسألتنى :
     ــ وما الذى لم تره حتى الأن ....؟
     ــ الجيشا .. والبيت اليابانى ...
     ــ سأريك البيت اليابانى .. أما الجيشا .. فلا أعرف مكانها ..
وضحكت ...
     وكانت تود أن نتلاقى فى المتجر .. ولكننى لم أكن أحب أن يرانى سيمونوف أو العاملات .. وأنا أركب عربتها .. وكنت فى الوقت نفسه لا أحب أن أذهب إلى بيتها فى النهار .. ولذلك اتفقنا على أن أنتظرها فى مشرب الـ ( كوين بى ) بشارع جنزا فى الساعة الثامنة مساء ..
     وفى الموعد المحدود دخلت المشرب خفيفة رشيقة .. وقالت وهى تقرب عصير التفاح ..
     ــ لم أستطع أن أجئ بالعربة ..
     ـ لماذا ..؟ قد يكون هذا أحسن ..
     ــ خشيت ألا أجدك هنا فى الوقت المحدود .. وأنت تعرف أننى لا أستطيع ان أقف بالعربة اكثر من ثانية واحدة فى شارع جنزا .
     ــ أعرف هذا ...
     ــ والعربة الآن فى جراج فندق نيكوسيا ..
     ــ سنذهب إليها بالتاكسى ..
     ــ أو على أقدامنا .. إننى أحب أن أمشى بجوارك ..
     وأخرجنا العربة من جوف العمارة الكبيرة .. وركبت بجوارها ..
      وانطلقت كالسهم وسط السهام النارية كأن هناك سيل متصل من العربات لا أول له ولا آخر ومع هذا كنا نسرع بأقصى سرعتنا .. ولم أكن أدرى وأنا جالس معها فى العربة نفسها أأنا مجرد عميل من العملاء التقى بها فى المتجر أو عشيق ذاهب معها إلى نزهة حالمة اختلط على الأمر كله .. ولكنها كانت أكثر رقة وعاطفة من كل النساء اللواتى التقيت بهن فى حياتى ..
     وسارت السيارة أكثر من ساعة .. وأخيرا وصلنا منزلا صغيرا من طابقين .. فأوقفت العربة فى جانب ..
      وسألتها :
     ــ أهذا بيتك ؟ .. ما أجمله ..!
     ــ إنه بيت أختى ...
     وخلعت حذائى قبل أن أتخطى العتبة .. ومشيت حافيا وراءها على الحصير الملون الجميل .. وأدخلتنى فى غرفة صغيرة .. كلها حشايا ووسائد .. فجلست على الأرض ..
     وقالت برقة :
     ــ أرجو المعذرة .. سأغيب لحظة ..
     وغابت .. وجلست مسترخيا .. وسمعت صوت قيثارة آتيا من الخارج حتى وقفت على الباب وكان الصوت يقترب منى وكانت ترتدى ملابس الجيشا.. وبيدها القيثارة ..
     ولم أعرفها أولا .. ولما عرفتها انحنيت بجسمى وطوقت رجليها فتركت القيثارة من يدها وأرتمت بجوارى على الحصير ..
***
     وبعد ثلاثة أيام رأيت زوجها فى المحل .. وكان قصيرا .. عريض الصدر .. ولم يكن عجوزا .. كما تصورته .. بل كان شابا ولكن وجهه كان مكورا مضغوطا كأنما ضغط عليه فك قوى ثم أطلقه ..
     وكان يتحدث مع أحد العمال .. ووجهه على الأوراق ..
     ولما أشتريت بعض الأشياء وخرجت كان قد غادر المحل قبلى ..
     وفى ضحى يوم لم أجد المدام فى المتجر فسألت عنها إحدى العاملات ..
      فقالت هامسة ..
     ــ إنها مريضة فى البيت .. فقد ضربها زوجها حتى أدمى وجهها .
     وفزعت وسألت الفتاة :
     ــ ولماذا ضربها ..؟
     ــ لأنه مخمور .. وهو دائما يضربها كلما عاد من يوكوهاما .. دون سبب..
     وتألمت .. وكنت أود أن أجد وسيلة لرؤيتها .. وخرجت من المحل .. وعدت فى العصر إلى المحل .. ومن الخارج رأيتها فدخلت وأسرعت إلىّ كانت عيناها حمراوين وفى وجهها كدمات ظاهرة .. وأخذتنى كأنها سترينى شيئا فى الطابق الأرضى وهناك عصرتنى بذراعيها .. ومسحت جراحها بشفتى ..
     وبعد ثلاثة أيام ضربها زوجها مرة أخرى ضربا مبرحا .. حتى عجزت عن الحركة .. وقعدت فى البيت .. وسمعت هذا الخبر من العاملة سيمايا .. فقررت أن أفعل كل ما فى طوقى لأنقذها من خبله ..
     ولكن المقادير جرت أسرع منى .. فقد رأيت .. زوجها مشنوقا فى الليلة التالية ومعلقا تحت الجرس وكان المحل قد أغلق أبوابة .. ولكن الباب الخارجى كانت تهزه الريح العاتية فيرن الجرس ...
     وكان سيمونوف .. جالسا فى مكانه من المدخل .. وكان ينظر إلى الجرس كعادته وهو يتحرك .. ولا يستطيع أن يسمع رنينه ..
     وكان فى يده بقايا الحبل الذى أداره على عنق الرجل .. ولما اقتربت عربة البوليس السريعة وهى تشق الظلام وسكون الليل بصفيرها المزعج ظل فى مكانه وكانت الجموع تقترب منه كعادة الجماهير فى كل مكان ..
     ولكن سيمونوف لم يكن يعيرها أية التفاتة ..!!
================================   
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 26/5/1958 وأعيد نشرهافى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
================================



حكاية من طوكيو


     جلست فى قاعة الشاى بفندق دايتشى ذات يوم من أيام الخريف .. أتأمل فى الجمال المحيط بى وأتطلع إلى الوجوه الجديدة التى تدخل من الباب الدوار..
     وكان البهو مزدحما بالنزلاء .. والفتيات العاملات يدفعن العربات الصغيرة المحملة بالحقائب فى نشاط لا يوصف ..
     وكانت الأجراس تدق والمصاعد طالعة نازلة .. كل شئ يتحرك بسرعة عجيبة كخلية النحل ..
     وفجأة سمعت الفتاة التى اعتادت أن تنادى على النزلاء بالميكرفون تصيح بالإنجليزية :
     ــ مستر .. إبراهيم كامل .. مطلوب فى التليفون ..
     فرفعت رأسى .. متعجبا وأنا أسمع هذا الاسم فى مدينة طوكيو .. ونظرت إلى آلة التليفون الموجودة بجوارى .. وركزت البصر .. وبرزت شابة .. وتناولت السماعة سريعا ..
     وظلت تتحدث دقيقتين .. وكان صوتها ضعيفا فلم أسمع كلمة من حديثها.. ولكننى أدركت أن لها علاقة بالشخص المطلوب .. وبعد أن انتهت المحادثة دخلت من سياج الممر .. وجلست إلى مائدة قريبة منى فى قاعة الشاى .. وكانت متوسطة الطول بيضاء .. تقص شعرها الاجارسون وترتدى فستانا من قطعة واحدة قصيرا إلى الركبة .. ومنسجما مع قوامها الجميل ..
     وكانت عيناها سوداوين .. ووجهها طويلا وعلى خدها الأيمن شامة سوداء .. كغرسة دبوس كبير تركت الخد يدمى ..
     وكانت تدخن وتنظر مثلى إلى الباب الخارجى ..
     وتركت كرسيها أكثر من مرة لتتحدث فى التليفون .. ثم عادت إلى المائدة نفسها .. وفى المرة الأخيرة بدا على وجهها القلق ..
     وحوالى الساعة الواحدة بعد الظهر ظهر شاب نحيف القوام .. وجلس بجوارها .. وكان يرتدى حلة رمادية ذات خطوط بيضاء خفيفة .. ويضع على عينيه منظارا سميكا ..
     وكان يبدو خجولا وعينيه أبدا متجهتين إلى الأرض كأنها تبحث عن شئ ضاع منه .. منذ لحظات ..
     وأخذ يحادثها بلهجة أهل القاهرة بصوت جعلنى أسمع الحديث كله .. وحدثته هى عن شركة السياحة التى طلبته فى التليفون .. وعن الصباح الذى ضاع بنومه ..
      وسألت فى استغراب :
     ــ كيف ينام إنسان فى طوكيو إلى الظهر هل نحن فى حلوان .. ؟
     وكانت مستاءة .. ثم ضحكت وأشعلت سيجارة ..
     وبعد نصف ساعة خرجا معا من الباب الدوار ..
***
     وفى الليل .. رأيتهما يتقدمان فى اللحظة التى تقدمت فيها إلى مكتب الإستقبال يأخذان مفتاح غرفتهما .. وسمعت رقم الغرفة .. وأدركت أنهما فى الطابق السادس .. وهو الطابق الذى أقيم فيه ..
     وفى المصعد .. تعارفنا .. واستغربا وجودى فى هذه المدينة .. فقد كانا يتصوران أنهما المصريان الوحيدان فيها .. وسرا لأنهما وجدا مواطنا فى الفندق نفسه ووقفنا نتحدث بحكم العادة المصرية قليلا فى الممر .. ثم حييتهما وانصرفت إلى غرفتى ..
***
     وفى صباح اليوم التالى وجدت رجاء .. جالسة وحدها تتناول الإفطار فى قاعة الطعام .. فحييتها وأخذت أبحث عن مائدة خالية .. فقد كان المطعم ممتلئا ..
     وقالت برقة :
     ــ تفضل .. هنا .. معى ..
     ــ وإبراهيم بيه .. ؟
     ــ إنه نائم .. وسيضيع عليه الإفطار ككل يوم ..
     ــ ولماذا لم توقظيه ..؟
     ــ أيقظته .. ولكنه فتح عينيه .. ونام ..
     ــ لعله يسهر كثيرا ..
     ــ أبدا .. إنه نام بعد أن تركتنا أمس بلحظات ولكن هذه هى عادته .. ومن الصعب أن يتخلص المرء من عادة متمكنة منه ..
     ورأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
     ــ هل أعجبتك طوكيو ..؟
     ــ أجل .. إنها جميلة ... جميلة ..
     ــ وإلى متى ستبقون فيها ..
     ــ إلى أن تفرغ النقود .. وأنت ..
     ــ إنى مسافر فى نهاية الشهر ..
     ــ سيكون لدينا وقت طيب .. نقضيه فى صحبتك إذن ..
     ــ شكرا جميلا .. وإلى أين تذهبان هذا المساء ..؟
     ــ سننتظر ما يقرره الدليل .. فالغريب .. لا يعرف طريقه فى هذه المدينة..
     ــ هذا صحيح .. اذهبا إلى الكوين بى .. وإلى جولان جنزا .. وإلى ملهى السفينة .. وملهى الحريم .. وكابريه ميماتسو ..
     ــ كل هذا شاهدته ..؟
     ــ بالطبع ..
     ــ هل ترغب فى أن تشعل سيجارة ..؟
     ــ مرسى .. إننى لا أدخن ..
     ــ يضايقك الدخان ..؟
     ــ أبدا ... خدى راحتك ..
     ولما جاءت الفتاة بفاتورة الطعام .. قيدت الحساب .. على رقم غرفتى .. ولم تكن المسألة على بساطتها تستحق المعارضة من جانبها ..
     فابتسمت وشكرتنى ..
     وخرجنا إلى الصالة .. وأستأذنت بعد ساعة لتصعد إلى زوجها بعد أن حاولت إيقاظه .. بالتليفون أكثر من مرة .. ولكنها لم توفق .. وكنت فى طريقى إلى جامعة طوكيو .. فبارحت الفندق ..
***
     وأصبحت أقابل رجاء كل صباح فى قاعة الطعام .. حوالى الساعة السابعة.. وكنا نفطر فى نصف ساعة .. ولما كنا لا نستطيع أن نجلس فى قاعة الشاى قبل الساعة التاسعة فقد كنا نخرج ونجول فى المدينة .. أو نركب المترو.. فى نزهة قصيرة .. ونعود سريعا إلى الفندق لنوقظ زوجها إبراهيم ..
     وكانت تدق له التليفون من مكتب الاستقبال ولكنه كان لا يرد .. ولا ينهض من فراشه أبدا .. فتضطر أن تصعد إليه .. وتعود بعد دقائق قليلة كاسفة البال .. وهى تقول لى :
     ــ اعمل معروف .. اصعد معى .. ربما يخجل منك ..
     وكنت أكتفى بأن أصعد معها .. إلى الجناح الذى فيه الغرفة .. وأقف فى مكتب الاستقبال هناك فى أنتظارها حتى توقظه أو أتصل به بالتليفون .. لأنى كنت لا أحب أن أدخل على شخص غريب غرفته وأراه فى مباذله ..
     وكان فى سبع حالات من تسع لا يصحو ولا ينزل معها ..
     وذات مرة ألحت على إلحاحا شديدا .. لأدخل عليه الغرفة .. فوقفت على الباب .. ورأيته يفتح عينيه بثقل شديد ولا يكاد يرانى .. وقد وضع المخدة على رأسه المصدوع .. وتكور كالشراب البالى ..
     واضطرب لما سمع صوتى ووعد بأن يلبس وينزل إلينا فى صالة الفندق بعد ربع ساعة وتركناه ونزلنا ننتظره ..
     وفى ساعة انتظاره أخذت رجاء تحدثنى عن سبب رحلتهما .. كانا فى زيارة قريب لهما موظف فى إحدى شركات الطيران الكبيرة بنيودلهى .. فرتب لهما زيارة هونج كونج .. ومن هونج كونج وجدا الفرصة سانحة .. لزيارة طوكيو ..
     ولم يكن إبراهيم فى أول الأمر يحب المدينة .. فلما عرفها ووجد فيها بغيته من الخمر .. والملاهى .. أحبها .. حتى أصبح لا يبغى الرحيل عنها ..
     وقالت لى إن زوجها يشتغل محاميا .. فى القاهرة .. ولكنه لم يذهب إلى المحكمة.. أكثر من خمس مرات طول حياته كمحام .. فهو دائما يوكل قضاياه إلى زميل له .. وكلما عرضت قضية هو موكل فيها طلب زميله التأجيل .. حتى إن القاضى عرفه .. وبمجرد أن يراه يقول ضاحكا :
     ــ تأجيل يا استاذ .. ؟
     وقالت لى إن زوجها كسلان جدا .. ولكنه طيب جدا .. أيضا ..
      ولم أكن قد كونت فكرة صحيحة عنه .. وكان كل الناس طيبين فى نظرى .. حتى وإن سببوا لنا المتاعب فهى طيبة كذلك .. وإن كانت قد أخذت تقيدنى فى هذه المدينة الكبيرة ..
     وكنت من قبل أنطلق على هواى من الساعة الثامنة صباحا ..
     ولكننى بعد أن التقيت بها أصبحت مقيدا بحركاتها ورغباتها ..
     وكنا نحاول بكل الوسائل .. أن يخرج معنا زوجها .. فى جولة الصباح .. ولكن كانت محاولتنا كلها تضيع هباء ..
     ولما أخفقت وسائلنا كلها لإيقاظه .. أصبحت أشفق عليها من تركها وحدها .. تجول حزينة متألمة .. فى هذه المدينة الضخمة ..
     وكنت أحيانا .. أزوغ منها لأنى شعرت بأنها تقيد حريتى تماما .. فسألتنى:
     ــ هل أصبحت أضايقك ..؟
     ــ أبدا .. كيف تفكرين فى هذا ..؟ 
     ــ لماذا الهروب إذن ..؟
     ــ كان علىّ بعض الدراسات .. وقد فرغت منها ..
     ــ إذن .. فلن تتركنى .. وحدى .. لأحزانى ..؟
     ــ أبدا .. لن يحدث هذا مرة أخرى ..
     وتألمت .. وأصبحت معها كظلها .. وعجبت للأيام التى تجمع شخصين ولا رابطة بينهما .. وتفرق بين شخصين وبينهما كل الروابط الاجتماعية ..
     وكان زوجها طيبا .. وديعا .. وبرغم كل ما كانت تبذله من عناية ورعاية.. فكنت ألاحظ أنه لا يحبها ولا يقابل عواطفها بمثلها .. كان معها جافا خشنا وكان يعيش معها .. كما قدر لكل زوجين مختلفين فى الأهواء والمشارب .. يعيشان عيشة فارغة .. من كل إحساس بسعادة القلب ..
     وعرفت منه أن والدته ماتت وهو صغير فى السادسة من عمره .. فأدركت لماذا فشل زواجه من رجاء .. فقد كان يحتاج إلى حنان الأمومة الرقيق .. ويود أن يضع رأسه على صدر أم ..
     فلما تزوج رجاء وكانت فى الثامنة عشرة من عمرها ، قليلة الخبرة والتجارب لم تبادله الحنان الذى كان يتوق إليه ويرغب فيه .. وشعر بفراغ موحش .. ونفر من البيت حتى لا يراها وأخذ يسكر .. ويسكر ..
     وكان همها كله ، كسائر الفتيات الصغيرات .. أن تلبس أجمل الثياب .. وتزهو على قريناتها بما لديها من جواهر نادرة ومعاطف الفراء الغالية التى تأتيها خصيصا من الخارج .. وأن تسكن فى فيللا أنيقة بضاحية مصر الجديدة.. وأن يكون فى البيت أكثر من سيارة .. وأكثر من خادم ومربية .. حتى وإن لم يكن عندهم أطفال ..
     ثم ما لبثت أن تبينت أن هذا كله هباء .. وقبض ريح .. وأن الشئ الوحيد الذى كانت تبحث عنه والذى تزوجت من أجله لم تجده .. فعاشت فى عذاب مدمر لأعصابها ..
     والواقع أنها كانت السبب فى شقائه .. كما كان هو السبب المباشر لتعاستها ..
     ولكن لا شئ يمكن أن يفعله الإنسان أمام حكم القدر ..
     ووجدا أخيرا .. أن خير ما يفعلانه هو أن يسافرا .. ولعل السفر يقرب ما بينهما من مسافة ولعله يرجعهما إلى بعضهما .. ويردهما زوجين حبيبين ..
***
     وكنت أسر وأنا أجد إبراهيم .. خارجا من المصعد فى العصر وهو فى أحسن حالاته .. وراءه رجاء أكثر سرورا منه ..
     ونجلس فى صالة الفندق قليلا لنشرب القهوة .. ثم نخرج ونجوس فى أنحاء المدينة .. ونزور المتاجر الكبيرة ومنها ننطلق إلى الملاهى .. أو نذهب إلى الاوبرا ..
     وكنا بعد أن نخرج من الأوبرا .. نجارى رغبته فى أن يدخل حانة ــ لأن منعه من هذا كان مستحيلا علينا ــ ليشرب كأسا .. فما كنا نحب أن نتركه وحده مخافة أن يحدث له حادث وهو ثمل .. فى مدينة تنطلق فيها السيارات فى الليل كالصواريخ ..
     وكنا نحاول بكل الوسائل أن نجعله يقلل من الشراب ما استطعنا .. ولكنه كان ما يلبث أن يندفع على هواه ، ويطلب ثلاثة كئوس معا .. وكنت أتألم وهو يغازل فتيات الحانات أمام زوجته .. وكانت هى تجلس جامدة المحيا .. ووجهها لا يعبر عما فى نفسها من ألم قاتل .. وكنت أحاول أن أخفف عنها وقع المسألة .. بأن اقلب الجو كله إلى مزاح ومرح .. ولكنها كانت تفهم أننى أمثل أمامها هذه المسرحية وكان هذا يزيد الموقف حرجا .. ويزيدنا شعورا بالتعاسة التى يضع الإنسان فيها نفسه من حيث لا يحتسب ..
***
     وذات ليلة انفلت منا إبراهيم .. ونحن فى ملهى .. ألكروف .. وخرجنا نبحث عنه ووجدناه فى ملهى الحريم .. وكان جالسا مع جارية حسناء كأنها من جوارى هارون الرشيد .. وتلبس ثياب الجوارى نفسها .. وزادها الثوب الشرقى فتنة على فتنتها ..
      وكان المكان شاعريا وهادئا .. ولكن إبراهيم كان ثملا .. ويحاول لثم الفتاة فى صدرها .. وهى تدفعه عنها بدلال ..
     وحاولت أن أمنع زوجته من رؤية هذا المشهد ..
     ولا أدرى أشاهدته أم لا .. ولكن الشئ الظاهر لى أن وجهها ظل محتفظا بهدوئه ..
     وخرج إبراهيم معنا .. والفتاة تتعلق به حتى الباب وكانت كاشفة عن كل مفاتنها وكل صدرها .. وتصورت أن رجاء صديقتى .. ولذلك لم تقلع عن مجونها إلى آخر لحظة ..
***
     وكان الفندق قريبا منا .. فرأينا أن نقطع المسافة على أرجلنا .. وبعد خطوات قليلة ـ وكنت أسير متأخرا عن الزوجين ـ برز لى شاب يابانى .. يرتدى معطفا قصيرا أبيض .. وعرض أن يرينى مشاهد خاصة فى طوكيو .. وقابلته بالرفض ولكنه ظل يلاحقنى ويعرض مباذله ..
     ورأيت أن أتأخر عن رجاء وإبراهيم بضعة خطوات حتى لا تسمع رجاء كلام الشاب .. وحتى لا يخدش حياءها وصرفته أخيرا .. بعد أن ظل يلاحقنى فترة طويلة ..      وتحت نفق المترو ..
      ورأيت سربا من الحسناوات اليابانيات من بنات الليل .. وهن فى حفل من الزينة .. وكانت وجوههن جميعا ... كأنها مطلية بالكريم الأبيض .. اللامع .. وكن مستغرقات تحت البواكى وملتصقات بالحائط ..
     وكن فى معاطف من الفراء من كل الألوان .. وصحن بى بالإنجليزية واليابانية :
     ــ تعال يا شاب .. نقضى ليلة ممتعة ..
     فمررت مبتسما دون أن أبادلهن الكلام ..
     ورأيت واحدة منهن حلوة ورقيقة المشاعر .. وكانت تقف دائما وحدها تحت باكية قريبة من الفندق صامتة .. وتكلمنى وأنا مار عليها بعينها دون أن تنطق حرفا .. وكانت صامتة فى وقفتها ولكنها متألقة .. ورفعت وجهى إليها هذه الليلة والتقت عيوننا بضعة ثوان .. ثم تركتها .. ودخلت الفندق لألحق بالزوجين ..
     ووجدتهما ينتظران المصعد .. وصعدنا معا .. وقبل الدور الرابع ظهر على إبراهيم التعب ولم يستطع الوقوف .. فجلس على أرض المصعد .. وأغمض عينيه .. ونظرت إلىّ رجاء بتوسل وقد أصبح لون وجهها كالقرمز ..
     وتعاونت مع عامل المصعد فاستند علينا حتى بلغنا به باب غرفته .. واضطررت لأول مرة أن أدخل غرفة الزوجين .. ووضعناه فى الفراش .. وخلعت رجاء سترته ودثرته .. وأغلق عينيه فخففت له الضوء فى الغرفة .. وبقيت معها قليلا ثم سلمت عليها وخرجت ..
     ولكن بعد أن خلعت بذلتى وتهيأت للنوم .. سمعت نقرا على بابى .. ولما فتحته وجدت رجاء وعلى وجهها الذعر ..
     وقالت باضطراب :
     ــ إن إبراهيم يموت ..
     ولما دخلت عليه .. كان وجهه يحكى وجوه الموتى .. فاضطربت ..
     ورفعت السماعة .. وطلبت من مكتب الاستقبال أى طبيب ..
     وقبل أن يجىء الطبيب .. تقيأ .. على حجر زوجته .. وحنت عليه .. ولم تتأفف من فعلته ..
     وشعرت فى هذه الساعة بعطف شديد عليها .. وبغيظ يحملنى على ضربه ..
     ولما جاء الطبيب .. أسعفه بالعلاج وطمأننا .. وقال لنا إنه فى الصباح سيكون فى أحسن حالاته ..
     وجلست وبجوارى رجاء فى حجرة الفندق الصغيرة .. وأمامنا الرجل .. الذى عرفته من أيام فقط وتوطدت المعرفة إلى صداقة بسببها هى .. وبسبب ما وجدته فيه من طيبة .. تجل عن الوصف ... وكان المريض قد نام .. وبقيت أنظر إلى رجاء فى صمت .. مخافة أن يوقظه حديثنا ..
     وكان جهاز التكييف يشتغل فى الغرفة ونحن غير منتبهين إليه من غمرة ما مر بنا من ذعر واضطراب على المريض .. ولم تشأ رجاء .. أن تتعب أحدا من خدم الفندق فى هذه الساعة المتأخرة من الليل .. فصعدت .. على الكرسى.. لتوقف الجهاز ..
     ولا أدرى لماذا رفعت رأسى .. وأخذت أرقبها وهى تقوم بهذا العمل ..
     هل كنت أخشى عليها من السقوط .. أم لأنى كنت أتحرك بإحساس لا أقوى على رده ..
     ورأيت ذيل قميصها التحتى .. ورأيت كل ساقيها .. وما فوق الركبة .. ونكست رأسى .. أمام كل ما رأيته من فتنة .. كراهب تاييس .. وهو يدخل عليها المخدع لأول مرة ..
     وعندما أوقفت الجهاز ونزلت .. جلست بجوارى صامتة .. وكانت مضطربة وتعانى مثل صراعى .. وما هو أشد منه .. فاعترانا وجوم مطبق .. وخيل إلينا فى غمرة هذا الصمت الأخرس .. أن المدينة الكبيرة التى لا تنام أبدا .. قد توقفت كل حركة فيها .. من أجل صمتنا ..
     وخرجنا من هذا الصمت .. عند ما تحرك إبراهيم فى فراشه بحركة عصبية ووقع الغطاء .. وتململ فكأنه سيسقط .. فذهبنا إليه فى وقت واحد .. ودثرناه .. وتحت الغطاء لامست يدى يدها .. فألقتها تحت يدى .. والتصقت بها .. وشعرت فى هذه اللحظة بأنها كانت فى حاجة إلى هذه اليد الغريبة .. لتمسح على يدها بحنان ..
     وأحسست بنار تكوينى ولكننى لم أستطع أن أبتعد عنها ولم تلاحظ رجاء الرجفة التى اعترتنى وكنت أرتدى الروب .. على البيجامة .. وقد جعلنى هذا أشعر باضطراب أكثر .. وأبديت لها رغبتى فى أن أخرج لأرتدى بدلتى ..
     فقالت باستغراب :
     ــ لماذا .. لقد قربنا من الصبح ..؟
     ــ ربما جاء الطبيب مرة أخرى .. ولا أحب .. أن يرانى بهذه الملابس ..
     ــ استرح .. ويكفيك تعبا .. إنه بخير ..
     ــ ربما نمت ..
     وتركتها .. وعدت إليها بعد ربع ساعة مرتديا بذلتى ..
     وخمدت بهذه الحركة الصراع الذى كان يعصف بكيانى ..
     وفى اليوم التالى كانت صحة إبراهيم قد تحسنت ولكنه لم يخرج من الفندق طول اليوم .. وفى الليل أبدت رجاء رغبتها .. فى أن تجول فى المدينة .. وكنت لا أحب أن أخرج معها فى هذه الليلة وفى الوقت نفسه .. لا أحب أن أتركها تذهب وحدها ..
     وبعد جذب وشد وجدنا نفسينا نسير فى الطريق ..
     وعبرنا النفق .. ثم اتجهنا إلى الترعة التى تشق المدينة .. وعلى حافتها وجدنا مقهى صغيرا .. فجلسنا قريبا من الماء .. نرى البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية .. تتراقص على صفحة الغدير .. ومصابيح الورق من كل الألوان تشع نورا يبهج النفس ..
     كانت وجوه الفتيات العاملات .. مشرقة وفى أحسن زينة .. والشعر أسود لامعا ..
     وكان المكان هادئا .. وانتحينا جانبا .. كأننا نختار خلوة عاشقين ..
     وكانت صورة إبراهيم .. تروح وتجئ فى رأسى وأنا جالس مع زوجته .. وظل حديثنا يسير على وتيرة واحدة مملة .. وكانت تثيرنى وتحاول أن تعرف مكنون قلبى .. ولكننى كنت ألف وأدور كالساقية الفارغة دون أن أعطيها أى شئ يشفى غليلها ..
      وخرجنا مرة أخرى إلى الطريق .. ووجدنا بجوار محطة المترو ... فى حى شمباسى .. مطاعم صغيرة شعبية .. تشوى اللحم .. على النار الخافتة ، فوقفنا .. نأكل مع الواقفين ..
     وقالت بابتهاج :
     ــ لم أشعر .. بمثل هذه الأكلة الشهية فى حياتى ..
     وكان شعورى بالمثل .. ولكننى لم أعقب واكتفيت بالابتسام ..
     واشتريت تفاحتين .. بثمانين ينا .. وكان البائع مهذبا .. ويريد أن يلفهما فى ورق ناعم .. فلما قضمنا منها أمامه ضحك .. وشيعنا بانحناءاته المتكررة ..
     وكانت أنوار السيارات القوية .. تغشى البصر وكنا لا نستطيع أن نتجاوز الرصيف قيد شعرة .. لأننا لو تركناه سنكون عرضة لحوادث السيارات ..
     وكنا نشاهد ونحن ماشيان على الرصيف الغانيات .. متزينات .. ولابسات الفراء .. وفى انتظار الرجل .. فى المواقف التى اخترنها لأنفسهن .. ولم يوجهن إلىَّ أى كلام وأنا مار وبجوارى رجاء ..
     وفى محل للحلوى وقفت أشترى شيئا .. ولما عدت وجدت رجاء .. واقفة مع الشاب اليابانى اللابس المعطف الأبيض الذى اعترض طريقى منذ أيام .. ولما رآنى اقترب ابتعد عنها .. ولم أشأ أن أسألها بما دار بينهما من حديث ..
***
     وفى الصباح خرجنا نجول فى المدينة نحن الثلاثة وتأخرنا وتغدينا فى الخارج وعدنا نستريح فى الفندق ..
     ونزلت إلى قاعة الشاى بعد الساعة السابعة ... ومرت على وأنا جالس رجاء .. وجلست قليلا ثم نهضت وقالت لى انها ذاهبة تشترى شيئا لإبراهيم من محل دايمارو ..
     وفكرت فى جولة شاعرية فى المترو الذى تحت الأرض .. وحدى فى الليل الحالم .. وسرت قليلا فى حى جنزا .. ومن هناك نزلت لأركب المترو ..
      وهناك فى المحطة وجدتها تركب المترو مع الشاب ذى المعطف الأبيض .. ولم أكن أعرف إلى أين هى ذاهبة معه .. وأدركت أن الفضول والحرمان هما اللذان دفعاها إلى هذه المغامرة ..
     وجلست منزويا أراهما ولا يريانى .. .. وفى المحطة التى نزلا فيها .. نزلت .. وجعلت لقاءهما مصادفة .. وأحمر وجهها ولم تنبس .. ومشت بجوارى صامتة وزاغ الدليل ..
     وعندما رجعنا إلى الفندق .. كنا كأنما عائدين من تشييع جنازة ..
***
     وفى صباح اليوم التالى .. تقابلنا وحيتنى فى فتور .. وقال لى زوجها إنها تشكو من زمن من روماتزم فى الساق .. واشتد عليها أمس حتى إنها لم تنم قط .. واقترحت عليهما فتاة من العاملات فى الفندق أن يذهب بها إلى حمام تركى مشهور .. لعلاج مثل هذه الحالة .. واتفقنا على أن نذهب ثلاثتنا فى الساعة الخامسة مساء .. وأن نتقابل قبل ذلك فى بهو الفندق ..
     ولما عدت إلى الفندق فى الساعة المحدودة .. لم أجد زوجها ووجدتها هى.. وقالت لى انه خرج فى جولة سياحية نظمتها شركة من شركات السياحة .. على أن يعود فى الساعة الرابعة .. وانتظرنا إلى السادسة .. وأصرت على أن تذهب إلى الحمام ..  وخوفا من أن تلجأ إلى الدليل .. رافقتها إلى هناك ..
      وتصورت الفتاة التى فى الاستقبال أننا زوجان .. فأدخلتنا فى مكان واحد .. ولكن عندما أخذت رجاء تخلع ملابسها فى الغرفة الداخلية .. خرجت هاربا.. وجلست فى البهو الخارجى أحتسى القهوة .. وخرجت رجاء وهى حافية ومدثرة بالبرنس تبحث عنى .. فلما وجدتنى بكامل ملابسى وأحادث العاملة على الباب بالإشارة ..
      سألتنى :
     ــ لماذا لم تذهب إلى الحمام ..؟
     ــ سآخذ حماما سريعا ساخنا بعد لحظات .. وأنتظرك هنا ..
     ومشت رشيقة .. تتأود أمامى وقد حلت البرنس .. قبل أن تدخل من باب الحمام فأغلقت عينى ..
     وجاءت بعد ساعة مشرقة .. باسمة .. كأنها ولدت من جديد .. وغسلت كل أحزانها وسألتنى بدلال :
     ــ هل التى كانت معك فى الحمام فتاة ..؟
     ــ بالطبع ..
     ولم أقل لها إنى لم أدخل الحمام ولم أتحرك من مكانى وسألتها :
     ــ وأنت ..؟
     ــ رجل بالطبع ..
     وشعرت بأنياب حادة تنهش لحمى ..
     ــ رجل .. وتقبلين هذا ..؟
     ــ ولم لا ..؟ انها رياضة ..
     وشعرت بالنار .. وكنت أعرف أنها تكذب وأنه لا يوجد رجل فى الحمام ..
     ولكننى كنت أود أن أعود إلى المكان لأستوثق من ذلك ..
     وتعشينا فى الخارج .. ولما عدنا إلى الفندق وصعدنا إلى غرفتها وجدنا إبراهيم نائما ... ودخلت هى الغرفة .. ووقفت على الباب معتمدا على الأكرة ..
     وقالت برقة :
     ــ أدخل نتحدث برهة ..
     ــ إنى تعب .. سأنام ..
     وكانت النار لا تزال مشتعلة فى رأسى .. وأغلقت عليها الباب .. ونزلت.. وخرجت إلى الطريق وهناك وجدت المرأة الوحيدة تقف تحت الباكية كأنها فى انتظارى ..
      واستقبلتنى بابتسامتها ووداعتها وصمتها .. وتأبطت ذراعها وعدت بها إلى الفندق ..
***
     ولما صعدت بها إلى الطابق الذى فيه غرفتى .. وفتحت الباب سمعت فى اللحظة نفسها بابا آخر يفتح من الداخل .. وأطلت منه رأس رجاء .. ولمحتنا ونحن ندخل .. ولكننى تجاهلت المسألة .. وأشعلت النور الجانبى ..
     وأخذت المرأة اليابانية .. تفك أزرار معطفها ..

================================= 
نشرت القصة بمجلة الجيل 12/1/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
===============================



اللؤلؤة


     كان ذلك منذ خمسة أعوام .. وكنت قد دعيت إلى حفلة شاى خاصة فى نادى الكتاب بمدينة طوكيو فى اليوم الرابع من ديسمبر .. وكانت الحفلة شائقة حقا وممتعة للغاية كثر فيها الحديث عن السلام والحضارة وعن مستقبل الإنسانية .. وعن الأدب .. والفنون فى آسيا وأفريقيا وفى العالم أجمع ..
     ولما جاء ذكر كتاب القصة تحدثنا عن تشيكوف .. وقلت للرفقاء حول المائدة .. إن العلوم الطبية كما يقول تشيكوف عن نفسه قد أثرت تأثيرا عظيما فى حياته الأدبية ووسعت ميدان ملاحظاته .. وإنه من دواعى سرورى وفخرى أننى بدأت أترجم لهذا الكاتب العظيم وأنا طالب صغير فى الجامعة ..
     وإنه لفلتة من فلتات الدهر .. وفنان أصيل لا يشق له غبار .. ولا يمكن أن يقارن بغيره من كتاب القصة القصيرة كموباسان أو موم .. أو كوبرين .. أو اندريت .. إنه نسيج وحده ولقد عرف كيف ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية ..
     وروحه العذبة قد جعلت منه أعظم كاتب على الإطلاق ..
     وانحنى فى تلك اللحظة فنان يابانى يقرب من الخمسين من عمره ..
     وقال فى تواضع ظاهر .. وأدب جم ..
     ــ لقد ترجمت لتشيكوف مثلك أيها السيد .. وأنا صغير .. ومازلت أترجم ..
     ــ ما أعظم سرورى .. !
     ولما انتهينا من الشاى وقف معى ذلك الفنان فى زاوية من القاعة وخضنا فى مختلف الأحاديث عن الفن والحياة ..
     وكان الرجل غزير المادة حقا يحيط بكل شئ علما ويعرف الكثير عن الشرق العربى وأدركت أنه فنان أصيل ولكننى قرأت على وجهه القلق والعذاب ..
     وقلت لنفسى إنه أكثر عذابا من تشيكوف نفسه ..
     وقال لى إنه يصدر مجلة الآداب والفنون .. وقدم لى نسخة منها .. فقلبت فيها وسألته ..
     ــ وكم تطبع .. ؟
     ــ ثلاثة آلاف ..
     ــ فقط ..
     ــ لابد أنك تخسر ..؟
     ــ دائما .. خسارة مستمرة ..
     ــ هل الأدب فى محنة .. وضائع فى هذه المدينة الكبيرة ..؟
     ــ لا .. وإنما تعوزنى وسائل كثيرة لعرضها على القراء ..
     وشعرت بالأسى للرجل المسكين الذى يضحى ويشغل نفسه بالأدب ويعيش فى فقر مر .. وأدركت قطعا أن شيئا ينقصه .. شيئا حيويا وهاما .. ففى طوكيو تطبع جريدة اساهى سبعة ملايين نسخة فى اليوم وجريدة يوميورى أربعة ملايين وهو شئ لا يحدث مثله فى أية مدينة فى العالم ..
     وقلت للرجل إنه من السهل جدا .. أن نجد ثلاثين ألف قارئ فى مدينة كهذه .. وقال لى إنه سيجدد فيها ابتداء من العام الجديد ويخرجها بشكل آخر .. أكثر أناقة .. فهو يشعر بأنها جافة وينقصها شئ ..
     وفى أثناء انشغالى بالحديث معه تقدمت لى سيدة شابة ممسكة بآلة تصوير صغيرة وقالت برقة ..
     ــ أتسمح بأن آخذ لك صورة ..؟
     ــ تفضلى ..
     ــ وصورة أخرى مع زوجى ..
     ــ تفضلى ..
     ووقف الرجل بجانبى والتقطت لنا أكثر من صورة .. ونحن وقوف .. وجالسين ومطلين من الشرفة الواسعة على الشارع المتألق بالأنوار ..
     وكانت السيدة سوجا ترتدى جاكتة واسعة الأكمام .. فى زى يابانى خالص .. وكانت رقيقة القد متألقة الوجه فائقة الجمال ويتوج رأسها باقة من الشعر الأسود المتموج الشديد اللمعان .. وكان فمها صغيرا .. وأسنانها صغيرة وفى صفاء اللؤلؤ .. وفى عينيها البراقة تلك الضمة الصغيرة التى تتميز بها اليابانيات على سائر البشر ..
     وراحت وجاءت فى القاعة الصغيرة كالطاووس الجميل وهى تمسك بآلة التصوير فى يدها ..
      ثم وقفت أخيرا بجانبنا .. وجذب انتباهى إليها .. صفاء عينيها ووجه لم أر له شبيها فى مدينة طوكيو كلها ..
     وانطلقت أتحدث معها ووجدتها تجيد الإنجليزية إجادة تامة بغير اللكنة التى سمعتها من غيرها من اليابانيات ..
     وكانت السيدة سوجا مسرورة فى الواقع لكونى أديبا مثل زوجها أداشى وكانت تخص هذا بكل مشاعرها فى كل لحظة .. محياها المتألق وعنقها الرقيق .. ويداها الناحلتان .. ودماثتها وحنانها .. كل هذه الأشياء تتجه إلى زوجها وأدركت أنها تعبده وتنظر إليه كعبقرى عديم النظير ..
     وبقيت أصغى إليها طوال ساعة كاملة وهى تحدثنى عن الأدب وعن زوجها وكنت أكره الاجتماعات العامة والخاصة ولكننى استغرقت فى هذه الجلسة .. وخرجت منها بأن المستر اداشى إنسان يصرخ بالعذاب فى مدينة ضخمة تعصر روحه وتقف بجانبه زوجة جميلة تناصره بحنانها وتساعده على المضى فى طريقه برغم الفقر وانقطاع السبل ..
     وقلت لها .. ونحن نتجه إلى الباب الخارجى .. وكانت قد طوت آلة التصوير ..
     ــ إننى أريد صورة واحدة من هذه الصور على الأقل ..
     ــ سنحمل لك المجموعة كلها .. أين تقيم ..؟
     ــ فى فندق دايتشى ..
     وأخرجت دفترا صغيرا .. وكتبت اسم الفندق ورقم الغرفة ..
     وقال لى المستر اداشى إن زوجته مغرمة بالتصوير .. وبارعة فيه .. وإنه نشر لها عدة صور فى المجلة وإنه ينتقى بعض الصور لنا لينشرها فى العدد الذى يصدر فى أول يناير وكانت المجلة تصدر أربع مرات فى السنة ..
     وشكرت المستر اداشى ودعوته وزوجته لتناول الشاى فى الفندق .. فى عصر الغد فقبلا الدعوة بسرور ..
     وقدما فى الميعاد .. وكان هو يرتدى حلته الرمادية نفسها .. ويبدو بعينيه الشهلاوين أكثر تعبا مما رأيته بالأمس ..
     وكانت هى ترتدى رداء أوربيا فى هذه المرة .. من بلوزة وجونلة من لون واحد ..
     واقتعدنا مكانا فى قاعة الشاى وكنا قريبين من الباب الدوار .. واليوم يوم السبت والباب يقذف فى كل لحظة فوجا جديدا من الزوار ..
     وفتاة على الميكرفون يجلجل صوتها فى القاعة تطلب بعض النزلاء إلى التليفون ..
     وأخذ الرجل الفنان يحدثنى وسط هذا الضجيج عن رسالة الفكر فى الحياة .. وكانت زوجته تصغى إليه باهتمام زائد وهو يتحدث عن تحرير الإنسان من شبح الحرب .. ومن الخوف .. ومن الموت جوعا .. كما تحدث عن خلاص البشر من العمل الآلى وسألته وأنا أبتسم ..
     ــ هل أنت من أنصار الطبيعة مثل روسو ..؟
     ــ لا أقصد هذا وإنما يجب أن نحرر الإنسان من العمل المضنى ونعطيه فرصة للراحة ليفكر فى نفسه كإنسان .. وما قيمة الكهرباء إذا كان هو نفسه يعيش حياة كئيبة قاتمة ..
     يجب أن يشعر الإنسان بسموه على الآلة وعلى أضرابها .. وعلى الذرة نفسها .. وأن يسخرها لمصلحته ..
     وكانت سوجا تسمع وتؤمّن على كلامه .. وكانت تتصور أننا باعتبارنا أدباء .. نعرف أشياء لا حد لها .. عن العلم والذرة ومعجزات الإنسان ..
     وكانت وجنتاها تتضرجان قليلا عندما ترانى أحد إليها النظر وأثنى على لهجتها السليمة فى الحديث ..
     وكانت تسمع بشغف كل ما أتحدث به عن وطنى العربى ..
     ولما قلت لهما ..
     ــ إنى أتمنى أن أرى القاهرة يوما ما فى جمال طوكيو ..
     ــ إن القاهرة جميلة .. كما نسمع ..
     ــ ولكن لا توجد مدينة فى العالم مثل طوكيو .. لقد وضعتم كل ما عندكم من جمال وفن فى العاصمة ..
     وبرقت عيناها وقالت ..
     ــ قد يكون هذا صحيحا ..
     وقدم لى المستر اداشى أعدادا من مجلته .. وكان يفتش بعينيه فى لهفة عظيمة عن رأيى ..
     وزوجته تنصت إلى كل كلمة أقولها ..
     ولم أكن أعرف اليابانية ولا كلمة واحدة منها .. ولكنها أخذت تترجم لى العناوين وتشرح لى ما فى داخل الصفحات ..
     ووجدت فنا خالصا وعملا أدبيا بحتا .. وهنأت الرجل وشكرته .. وشكرت سوجا على ترجمتها وهى تنظر إلى بثبات ورقة ..
     واستأذنا فى الانصراف بعد الغروب وهما يعدانى بإرسال الصور لى فى الغد .. أو بعد غد وسيتركانها لى إن لم يجدانى فى مكتب الاستقبال ..
     وكانت لى رغبة عاتية فى الجولان فى المدينة فى تلك الساعة من الليل .. فرافقتهما إلى محطة شمباسى .. وكانت سوجا فى مشيتها وأناقتها وتسريحة شعرها تدل على أنها تنتسب إلى وسط رفيع وأنها حقا زوجة فنان ..
     وكانت حيوية الناس ونظافة ثيابهم وحركتهم السريعة .. تثير إعجابى وتلهب حواسى ..
     وهبطنا درجات المترو .. وهناك على الرصيف ودعتهما وأنا أشعر بأنى وجدت صديقين فى هذه المدينة الكبيرة .. وكنت فيها من قبل كسمكة تسبح فى محيط ..
***
     وابتعد المترو سريعا واختفت أنواره فى لحظة وجيزة وتلاشت الضوضاء من حولى .. وقد بقيت وحيدا على الرصيف أحد النظر فيما حولى من أنوار براقة تخطف البصر .. وفى الآلات الأوتوماتيكية التى يسقط الجمهور فيها قطع « الينات » .. فتخرج التذاكر .. وفى القطارات الزرقاء .. المغطاة كراسيها بالقطيفة .. وفى كل ما حولى من جمال ..
     وكانت رائحة الشتاء تغمر المحطة والأمسية باردة .. ولم أكن أرتدى معطفا فضممت سترتى وأنا أصعد سلالم النفق إلى أعلى .. وأستقبل الهواء البارد فى شارع جنزا ..
     كانت الأنوار تسطع والبالونات الحمراء .. والزرقاء والبنفسجية .. تسبح على رءوس العمارات الشاهقة .. وأنوار النيون تغمر واجهة الحوانيت ..
     والناس يسرعون رائحين غادين على الرصيف والنساء فى الكومينو وفى الزى الأوربى والرجال قصار ولكنهم مصبوبون صبا فى قوالب واحدة .. ويسرعون فى نشاط عجيب إلى بيوتهم .. كانوا خارجين من البنوك والشركات والبيوتات المالية الكبيرة .. ويتجهون إلى مساكنهم .. فى الضواحى وأطراف المدينة ..
     وكانت صورة اداشى بذقنه الصغيرة المدببة وعينيه الشهلاوين لا تبرح ذهنى ..
     وعندما أمسيت فى غرفتى فى الفندق اتجهت أفكارى إليه فأخرجت مجلته وأخذت استعرض ما فيها وأدخن .. وأفكر فى سلسلة الروابط .. التى تربط الفنان فى العالم بأخيه ..
***
     وفى الصباح المبكر من اليوم التالى دق جرس التليفون فى غرفتى .. ولما رفعت السماعة وجدت .. سوجا على الخط وقالت لى إنها تتحدث من بهو الفندق وأنها جاءت إلى بالصور .. وكانت قاعة الشاى بالفندق لا تفتح قبل التاسعة صباحا .. واستحيت أن أطلب منها أن تصعد إلى غرفتى .. فقلت لها بأنى سأوافيها .. فى البهو الداخلى الصغير الذى بجوار المصاعد فى الحال ..
     ونزلت مسرعا فوجدتها ترتدى الرداء اليابانى الواسع الأكمام .. وكنت أرى ذراعيها الرقيقتين الناحلتين فى كميها العريضتين ..
     وجلسنا فى ركن من القاعة وأرتنى الصور .. وسررت بها جدا فقد كانت لقطتها رائعة .. وقرأت على وجه زوجها فى الصورة الأسى الذى رأيته عليه فى الحياة .. وسألتها عنه ..
     فقالت لى إنه مشغول .. بإخراج المجلة .. لأنها ستصدر فى أول العام الجديد .. وقالت لى إنه يقاسى ويعانى كثيرا .. ولا يحس به إنسان ولا يجد صدى فى الحياة وإنه سر جدا عندما رآنى .. والحديث عن مجلته فى أية مجلة عربية سيسعده ..
     وأضافت برقة ..
     ــ حبذا .. لو ترجمت من أعماله شيئا وأرسلته له ..
     ووعدتها بذلك وسرت كثيرا ..
      وقلت لها إن أقسى شئ على الفنان أن لا يجد الصدى .. ولا الرنين لأعماله الكبيرة ..
     وتشيكوف يقول على لسان أحد أبطاله :
     « إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والعطف من أى إنسان .. »
     ولعل زوجك ترجم هذا فيما ترجم لتشيكوف .. وأحس بالمرارة نفسها ..
    وقالت برقة :
     ــ لابد أن يكون قد ترجم هذا .. وأحس به فعلا .. كما تقول .. إلى أين ستذهب فى هذا الصباح ..؟
     ــ سأجول فى المدينة .. أسير كيفا اتفق ..
     ــ هل رأيت قصر الإمبراطور .. والتليفزيون والمحطة وجامعة طوكيو ..
     ــ كل هذا رأيته .. وحتى كلية البنات ..
     وضحكت .. وسألتنى باستغراب ..
     ــ ولماذا ذهبت إلى هناك ..؟
     ــ لأرى الفتاة اليابانية الصغيرة .. فى المدرسة .. وأعرف ما تتعلمه هناك .. لتواجه به الحياة ..
     ــ وهل أعجبتك ..؟
     ــ جدا .. إنها مثال الفتاة المهذبة النقية .. التى تسعد زوجها حقا ..
     وكانت تبتسم ..
     وظللنا نتحدث .. وكانت الساعة قد جاوزت التاسعة وافتتحت قاعة الشاى .. فعرضت عليها أن نجلس قليلا فى القاعة ..
     فقالت برقة :
     ــ أنا لا أود أن أحرمك من التمتع بمنظر المدينة فى الصباح .. وأحبسك بين هذه الجدران .. الأحسن أن نخرج ..
     ونهضنا .. ونفذنا من الباب الدوار معا إلى الطريق .. واستقبلنا الصباح المشرق ببشاشته ..
     وسرنا متمهلين تحت الكوبرى الذى يعبر فوقه المترو .. وكنا نسمع هزاته السريعة فوقنا ..
     وكانت هذه أول مرة أخرج فيها بصحبة امرأة فى هذه المدينة الكبيرة .. كانت رقيقة وادعة وابتسامتها المؤثرة .. تمسح لواعج صدرى .. وكنت خائفا ومقرورا حتى فى الصباح الدافئ ..
     وكانت الشمس تفضض الأرض وتذيب ندى الفجر .. وتطارد الضباب ..
     واجتذبتنى المطاعم الصغيرة .. والحوانيت .. ودكاكين الشوكولاتة والسجائر .. والفاكهة .. التى على الجانبين .. بنظافتها والنساء الجالسات فى صف طويل يمسحن أحذية المارة .. فى براعة وأناقة ..
      وقلت لسوجا :
     ــ إن منظرهن ممتع ..
     ــ ولكنى أشفق على الصبايا منهن من هذا العمل ...
     وتنضر وجهها .. ونحن نقترب من حى جنزا .. وقد أغلقت أبواب ملاهيه.. الحى الذى ليس له ضريب فى العالم .. والذى يتألق فى الليل .. كالماس على صدر أجمل حسناء يلفظ الآن أنفاسه .. ولن تفتح أبوابه .. إلا بعد الخامسة مساء ..
     إن الجمال الممتع فى الليل يتحول فى النهار إلى كآبة موحشة ..
وخرجنا من الحى ..
     ودخلنا مكتبة على الطريق .. ومتجرا كبيرا من سبعة طوابق .. وركبنا السلم الكهربى كطفلين صغيرين ..
     وكانت جذلانة وكنت أشد منها سرورا .. وعلى سطح المتجر جلسنا نشرب الشاى ..
     وانتقت لى بعض القمصان الجاهزة والكرافتات .. وآلة حلاقة كهربية .. وكنت أود أن أشترى لها أى شئ بسيط .. ولكن رفضت بإلحاح أذهلنى ..
      وسألتنى إن كنت قد رأيت .. مسرح كابوكى .. والسيزاما .. وذهبت إلى فوجى .. وهاكونو فلما قلت لها بأنى شاهدت كل هذه الأشياء ..
      قالت ضاحكة ..
     ــ أنت الآن تصلح لأن تكون دليلى ..
     وكنت أشخص إلى الفنجان الذى تمسكه بيدها البضة .. وأبقى سادرا مشدوها وكانت خصل من شعرها الأسود تبدو من تحت وشاحها الحريرى وتلتصق بصدغيها ورائحة عبقة تمتزج مع أنفاسها رائحة البنفسج الممزوج بالمسك ..
     وسألتنى :
     ــ ما بالك صامتا ..؟
     فقلت هامسا :
ــ كنت أفكر .. لماذا التقيت بك ..؟
     وسألتنى وهى تقترب بوجهها منى :
     ــ ماذا تقول ..؟
     وكانت لم تسمع قولى .. وحمدت اللّه على ذلك وقلت ..
     ــ إنى أفكر فى زيارة جريدة اساهى .. إن رقم توزيعها يذهلنى ..
     ــ سيذهب معك زوجى .. وسأجعله يرتب الأمر مع الجريدة ..
     ونظرت فى ساعتها .. وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة .. فاستأذنت وودعتها على محطة الأوتوبيس ..
***
      وأخذت استقبل من طريقى ما استدبر .. كنت أسير فى الطريق الذى اجتزناه منذ لحظات .. وكان شعور شديد من الكآبة .. الممزوج بالفرح .. يجتاحنى ..
     وعلى حاجز الكوبرى الصغير .. الذى تجرى تحته الترعة التى تشق المدينة وبجوار ملهى السفينة .. وقفت أرقب المياه الساكنة تحتى وأنا أحس بأنها تتحرك وتتحرك عن مثل الدوامة ..
     ولما مر القطار .. فكرت أن أركبه لمدة ساعة وأرى ضواحى المدينة ثم وجدت نفسى أقتعد حجرا فى مقهى صغير على حافة الترعة وكانت على بعد نصف فرسخ من المحطة ..
     وكانت فتاة المقهى لا تعرف الإنجليزية .. ولا الفرنسية .. فجذبتنى من كمى إلى الداخل لأختار ما أريده من الطعام والشراب .. وبعد قليل انزاحت عنى الكآبة وشعرت بأن ضحكتها الفضية ترقص قلبى ..
***
     وزرت مع مستر أداشى جريدة أساهى .. والجامعة الأهلية .. وكل المكتبات الكبيرة فى المدينة .. وشكرت الرجل الفنان لأنه خصص لى كل هذا الوقت وتركنى وهو يحدثنى بأنه لا يزال يبحث عن العدد الأول من مجلته .. ليضمه الى المجموعة التى أهداها لى ..
     واسترحت قليلا فى الفندق ..
***
     وفى الليل خرجت إلى المدينة الرهيبة وحدى وكنت أسير كالضال فى الليل الحالم .. وجذبتنى ملاهى جنزا .. بأنوارها والستائر على الأبواب الزجاجية الصغيرة .. ودفعت بابا صغيرا فيها .. ودخلت فوجدت صبية على الباب تقول بلهجة مهذبة وهى تنحنى .. وتفتح لى الباب ..
     ــ تفضل يا سيد ..
     ووقفت على الباب لحظات من الخارج .. أنظر إلى الداخل .. وكان المكان صغيرا .. وبه حوالى عشر فتيات .. يرتدين زى الكومينو .. وبعضهن بالزى الأوربى وكن جالسات وواقفات خلف الطاولة المستديرة .. وعيونهن ترقب كل داخل .. ولم يكن بالمكان أحد .. فهممت أن أدخل ثم استحييت أن ينفردن بى ويتجمعن حولى وليست لى رغبة فى الشراب .. فرجعت عن الباب .. وفى تلك اللحظة لمحت سيدة تعبر الطريق .. ولما دققت النظر فيها عرفت أنها « سوجا » ..
     ووقفت لما رأتنى كأنها تنتظرنى .. فأسرعت إليها ..
     وسألتنى :
     ــ هل كنت بالداخل ؟
     ــ إننى لم أدخل بعد .. كنت أنظر من خلال الباب ..
     ــ وأعجبك المنظر .. ؟
     ــ جدا ..
وضحكت أنا .. واكتفت هى بالابتسام .. لكننى أحسست بعد بضع خطوات أنها تشعر بالزهو .. لأنها أبعدتنى عن هذا المكان ..
     وكنت أعرف .. مشربا هادئا من مشارب الشاى .. قريبا من حى شمباسى .. فمشينا إليه .. ومشت بجوارى صامتة .. وأنا أحس بوقع خطواتها على الأرض الحجرية ..
     وسألتها عن زوجها .. فقالت لى إنها تركته منذ نصف ساعة فى عمله .. وإنها فى طريقها إلى البيت ..
     وجلسنا ساعة فى المشرب ثم خرجنا وقلت لها إننى أود أن أريها مجموعات من الصور .. اشتريتها من هونج كونج .. ومانيللا .. وبانكوك .. وشانغهاى .. ودلهى الجديدة .. وبومباى .. مادامت مغرمة بالتصوير .. فوافقت ..
     ولما اقتربنا من باب الفندق .. دخلت معى .. وتناولت المفتاح واتجهنا توا.. إلى باب المصعد وهى بجوارى صامتة .. وصعدنا .. إلى الدور السابع .. ودخلنا غرفتى .. وكانت صغيرة وأنيقة .. فسرت منها وجلسنا قليلا نتحدث.. ثم أخرجت لها مجموعة الصور وتركتها تقلب فيها واتجهت إلى الحمام .. وكان من داخل الغرفة وقبل أن أدخله ملت إلى باب الغرفة الخارجى وأغلقته بالمفتاح من الداخل بحركة خفيفة حتى لا تحس بى ..
     وشعرت وأنا أدير صنبور المياه الساخن الذى فى الحمام لأغسل وجهى أنها وضعت سماعة التليفون الذى فى الغرفة ..
      فلما أسرعت وعدت إليها وجدتها منهمكة فى الصور .. وراقتها جدا .. صور شنغهاى .. بومباى ..
      وجلست بجوارها .. أقلب معها فى الألبوم وأريها الصور الباقية ثم وجدت نفسى دون إدراك .. أضمها ألى صدرى وأقبل عنقها .. ووجهها ..
     وأخذت تدفعنى بلطف وأنا أقترب ولما رأتنى لا أتراجع ازدادت مقاومتها وازداد تطويقى لها وأخذت أقبلها فى جنون .
     واستفقت على قرع الباب الخارجى .. فنظرت إلى عينيها قليلا .. واتجهت إلى الباب .. فوجدت الخادمة تحمل صينية الشاى ..
     ولم أكن قد طلبت شيئا .. وأدركت أنها هى التى طلبته بالتليفون وأنا فى الحمام وانها شعرت بى وأنا أغلق الباب من الداخل فتعمدت أن تأتى الخادمة وتقطع علينا هذه الخلوة لتمنعنى من حماقة ..
     وشعرت بالخجل .. لما ذهبت الخادمة وظلت سوجا بجانبى وكنت أشعر بالقلق ..
     وقلت لها :
     ــ آسف لما حدث ..
     ــ أنا أعرف أنك متعب الأعصاب يا سيد إبراهيم .. وما حدث كان نزوة أعصاب مرهقة ..
     ــ شكرا .. ولكنك جعلتينى أعتقد خلاف ذلك ..
     ــ ماذا ..؟
     ــ اّننى أصبحت غير مرغوب فى من النساء ..
     ــ لا تفكر فى هذا .. إن الخطيئة تحطمنى تماما ..
     ــ لم يحدث شئ .. ولقد نسيت بحماقتى أنك تحبين زوجك .
     ــ إننى الشئ الباقى له .. فى الحياة ..
     وما زلت أحادثها حتى هدأت واطمأنت تماما .. إلى أن ما حدث كان عارضا وقتيا .. لا يتكرر ثانية ..
     ثم رافقتها إلى الخارج ..
***
     وبعد يومين زارنى المستر اداشى فى الفندق وهو يحمل لى العدد الأول من مجلته .. وكان الرجل منكسر النفس .. ورقيقا للغاية حتى جعلنى أشعر بالخجل .. وكان يزهو وهو يقدم لى هذا العدد بالذات كأنه يحمل كنزا ..
     ولما قلت له .. إنى أود أن أشترى عقدا من اللؤلؤ لزوجتى من المدينة ولا أستطيع أن أميز بين اللؤلؤ الحقيقى واللؤلؤ الصناعى ..
     قال لى بلطف :
     ــ سترافقك سوجا فى الوقت الذى تختاره .. إنها خبيرة ..
***
    ولما دخلت المتجر أنا وهى وعرضت علىّ البائعة الآلئ من كل الأحجام والألوان وانحنت سوجا على الطاولة لتفحصها كنت أعرف أنها هى اللؤلؤة الحقيقية .. النادرة الوجود .. وما عداها زائف ..
================================   
نشرت القصة فى صحيفة المساء 8/4/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
===============================


فهرس 

هذه هى الحياة                                       2
الغريب                                              15
رجل يعيش                                          21
الرمال                                               28
اللوحة                                               35
حارس البستان                                      42
السماء تطل علينا                                    45
تحت الريح                                           52
المنزل                                               60
الحبل                                                 67
زكى بك                                              73
دماء على الرمال                                    77
البديل                                                 88
الفرقة الأجنبية                                        98
فى المنزل المقابل                                  105
عين لا تنام                                           110
الفنان                                                 123
الوشم                                                 129
فتاة من هونج كونج                                  137
الجرس                                               143
حكاية من طوكيو                                     152
اللؤلؤة                                               166




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق