الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان





هذه هى الحياة

     كان القمر يرسل أشعته الفضية على الكون .. وكانت سلاسل من اللجين تتراقص على صفحة النهر ..
وكان منزل السيد إسماعيل عبد القادر ينهض فى أجمل موقع فى المنطقة .. أقيم على ربوة عالية ملاصقة لسيف النيل مباشرة فى جهة الحمراء ..
وتحيط به حديقة ناضرة .. بها أشجار الكافور والليمون والبرتقال .. واللبلاب .. وأرضها مفروشة بالورود والرياحين .. وزهر النرجس .. وفى وسطها فسقية صغيرة .. وهناك طلمبة .. وجدول من الماء الرقراق ..
كانت الحديقة فى الواقع كأنها جنة صغيرة فى أرض الأحلام .. ولكن صاحب المنزل لم يكن يجلس فيها .. أو يحس بوجودها .. وكأنه صنعها لغيره ..
وكان المنزل على مبعدة ثلاثة فراسخ فقط من خزان أسيوط .. وفى صف من المنازل والقصور المتناثرة .. التى هجرها أهلها إلى القاهرة والإسكندرية ومنهم من طوته القبور ومن عفى عليه الزمان ..
ولهذا كان الحى ساكنا كله وكان السكون المخيم يجعل كل شىء مسموعا بوضوح فبعد نزول الشمس ومتى هدأت الرجل يسمع هدير المياه المتدفقة من الخزان كنغم عذب الإيقاع ..
وكان السيد اسماعيل من كبار تجار القطن فى أسيوط ويملك محلجين كبيرين للقطن فى المنيا وديروط .. وعصارة ومطحنا .. وكان كثير التنقل والأسفار .. ليشرف على أعماله الواسعة ..
وقد أعطته الحياة أكثر مما كان يطلب منها .. أعطته المال بغير حساب .. ففى خلال الثلاثين سنة الأخيرة من حياته كوَّن ثروة ضخمة وكان لا يكف عن الحركة أبدا ليجعلها أكبر فأكبر ..
 ولكن الحياة التى أعطته هذا كله أخذت منه شيئا آخر .. شيئا لم يكن يجد له عوضا فى كل ما يملك من ثروة .. فمنذ سنوات طويلة وهو يشكو علة مزمنة فى المعدة ولا يدرى إن كانت قرحة أم سرطانا أم شيئا آخر لايعرف أصلا .. فقد حار فى تشخيصه الأطباء وكان يتنقل بين مشاهير الأطباء فى أنحاء الجمهورية .. وما من طبيب سمع به إلا وذهب إليه .. يستشيره فى علته ولكن ما من فائدة ولا تحسن ..
وأخيرا .. اقتنع بأن يحمل فى جيبه المسكنات وزجاجات الدواء الصغيرة حيثما ذهب .. وكان يتحمل الآلام فى صبر .. ولكن العلة المتمكنة جعلته عصبى المزاج بادى القسوة .. فكان يصرخ فى الخدم .. وفى زوجته لسبب ولغير سبب ..
ذات مرة أحس كأن شيئا يتمزق فى داخله واشتد به الألم .. أحس بأنياب حادة تنهش لحمه ببطء وعذاب فهبط الدرجات الصغيرة إلى الحديقة كأنه يراها لأول مرة .. فمنذ سنوات لم يضع قدميه فيها ولم يتنسم فيها نسمة .. صرفته الحياة بمشاغلها عن التمتع بمباهج الطبيعة ..
وكان جو الحديقة مائلا إلى البرودة .. وظلال الأشجار ممتدة فى أرجائها .. وكان شهر مارس يطوى أيامه والطبيعة تبشر بمقدم الربيع ..
وكانت السيدة خديجة زوجته قد سمعت صراخ زوجها إسماعيل وهى فى الداخل فأسرعت وحملت إليه بنفسها فنجانا من الشاى .. وجلس الرجل يحتسى الفنجان وعيناه .. عبر الأشجار .. على النهر المتدفق أمامه .. والأوراق الصغيرة تتساقط فيه وتذهب معه .. ويحملها التيار بعيدا وبعيدا .. وشعر بهزة وهو جالس .. شعر بحياته الجافة الكئيبة .. شعر بأنه عاش كالثور المربوط فى الطاحون .. وكان فى كل يوم يلف ويدور وهو معصوب العينين .. ولما فتح عينيه أحس بأن الوقت قد فات .. وأن شجرة حياته تتساقط أوراقها .. حتى لاتبقى عليها ورقة واحدة ..
ولقد كافح فى الحياة وجمع ثروة ضخمة ولكن لمن ..؟ وما الغرض من هذا كله ..؟ كانت أمنيته أن ينجب وأن يأتى بوريث ولكن الله لم يرد ذلك .. وقد تزوج باثنتين قبل خديجة .. ولكن ما من واحدة منهما جاءت له بما يطلب فسرحهما بمعروف .. وتزوج بخديجة منذ سبعة عشر عاما على أمل أن يرزق منها بوريث ولكنها لم تحمل أيضا برغم كل ما بذله الأطباء ..
وأحس بالمرارة .. وبأن الذهب الذى جمعه كله .. سيتحول إلى تراب فى يوم وليلة فابتأس وشعر بغصة فى حلقه ..
وكان فى جلسته على الكرسى يبدو قصير القامة نحيل الجسم وكان يرتدى جلبابا فضفاضا عليه روب من الصوف الرمادى .. وعلى رأسه طاقية صغيرة ..
وكان يبدو لضمور وجهه واسع العينين جدا وتبدو أصابعه معروقة وطويلة وكانت ساقاه مقوستين .. وقد غطاهما بجوربين من الصوف ..
وكان فى الخامسة والخمسين من عمره .. ولكنه يبدو فى شيخوخة رجل فى الثمانين ..
وسمعت زوجته رنين التليفون فى ردهة البيت والخادمة ترد .. فتحركت ثم عادت .. فجلست فى مكانها صامتة .. وكانت فى رداء داكن .. وتبدو بمحياها الوسيم .. وقوامها الممشوق .. لاتحتاج إلى زينة ..
وجاءت إليها الخادمة .. تحدثها فى أمر .. ثم ذهبت وعادت خديجة إلى صمتها ..
وكانت تحس دائما كلما جلست مع زوجها فى ساعات خلوتهما .. بأن شيئا ثقيلا يهبط عليهما فجأة ويكتم أنفاسهما ..
كان يتوق لأن ينجب منها ولدا .. يحمل اسمه .. ويرث ثروته .. ولكنه حرم هذا .. وكانت فى ساعات كثيرة تحس كلما التقت به وجلست معه بأنه يؤنبها بنظراته .. وكلما كبر فى السن وشاخ .. زاد التقريع وزاد الألم ..
وقد أشاع هذا جوا من الكآبة .. كان يشتم ريحها كل من يعمل فى البيت ..
وكانت الخادمة قد حملت له زجاجات الأدوية ووضعتها بجانبه .. فتناول قرصين من الأقراص وجرعة من زجاجة .. ومع هذا كان يحس بثقل فى معدته .. وانتفاخ .. وأشعل سيجارة .. وراح ينظر إلى صف الزجاجات الصغيرة والكبيرة من العقاقير ..ويذكر ماضيه .. وأيام فقره وشبابه .. أيام كان يحس بقوة دافقة تسرى فى الياف لحمه .. ولا يفكر فى المرض أبدا .. ولا يحس به ..
كان يأكل كل شىء ويهضمه .. حتى اللحم النىء .. وكان يشعر بالسعادة وبالقوة أما الآن فإنه يشعر بالعذاب والثقل من أبسط الأطعمه وأخفها .. ويتناول الجرعات والجرعات ليساعد على الهضم .. ويعين معدته على الحركة .. ومنذ أربعة أيام اشتدت عليه العلة وأصبح لا يستطيع الخروج لعمله ..
وكان فى خلال الليل الطويل يشعر بالكآبة .. وبشىء يضغط على الجو كله ويلفه فى مثل الضباب الأسود ..
وكان برغم مرضه وتحركه دائما فى البيت .. وزجاجات الأدوية تحت متناول يده .. بخيلا بطبعه وشديد الحرص .. ويتمنى أن يشرف على كل شىء بنفسه ..
فكان دائم السؤال عن أسعار الفتح فى البورصة وعن الأحوال فى الحلاجة .. وفى العصارة .. وفى الطاحون ..
كان يسأل عبد الحفيظ .. وتمام .. والشيخ عبد الرسول وهم وكلاؤه .. ويتصل بالتليفون بهم ويريد أن يعرف كيف تسير الأمور وتجرى فى كل ساعة من الزمان ..
وذات مساء .. قدم وكيله عبد الحفيظ من ديروط .. وطلب لنفسه سلفة .. لأن ابنه حسن سيضطر لتغيير مسكنه .. فصاحب البيت يريد هدمه وبناءه من جديد ولذلك أخلى من السكان ..
وسأله السيد اسماعيل :
ـ ولماذا تريد السلفة ..؟
ـ لأن ابنى سيسكن وحده فى شقة صغيرة جديدة .. وايجارها خمسة جنيهات فى الشهر ..
ـ تدفع لطالب فى المرحلة الأولى من الجامعة .. خمسة جنيهات فى الشهر ..
ـ المسألة .. كلها شهران .. وبعد ذلك أستطيع أن أدبر الأمور .. فى السنة المقبلة ..
ـ ولماذا لا تسكنه مع الطلبة ..؟
ـ أخاف أن تتغير أخلاقه .. وهو فى أول عهد بالجامعة .. إن ابنى لايدخن .. ولا يفعل شيئا يغضب الله .. وأنا حريص على تربيته ..
وفكر السيد اسماعيل قليلا ثم قال :
ـ هاته .. يأخذ الحجرة التى هناك فى طرف الحديقة .. فأنا لست فى حاجة الآن إلى مكتب .. والمسألة كلها شهر أبريل ومايو .. وفى السنة القادمة .. دبر أمورك بالراحة ..
وسمع عبد الحفيظ هذا الكلام وهو لا يصدق أذنيه .. فلم يكن يتصور أبدا .. أن السيد إسماعيل يتنازل عن جزء من بيته وإن كان بعيدا .. وفى الحديقة لأى إنسان مهما كان ..
ثم رد هذه المكرمة .. إلى حرص الرجل على ألا يعطيه شيئا من المال كقرض منه ليواجه به نفقات ابنه ..
وجاء حسن ابن عبد الحفيظ فى اليوم التالى من أقصى المدينة ..
وأقام فى الغرفة التى فى نهاية الحديقة .. ولم يحس بوجوده إنسان .. كأنه كان حيوان أليف .. كباقى الحيوانات التى تعيش قريبا من المكان .. كان شابا نحيل الجسم فى الثامنة عشرة من عمره خجولا .. وكان حسن هادىء الطبع .. وكان يقضى وقته كله فى الاستذكار .. ومحبوسا داخل الغرفة ..
وكان يسمع وهو يذاكر .. ما يدور فى داخل البيت .. كان السيد اسماعيل يثور فى بعض الليالى .. ويسير فى غرفته بعنف ويرمى بكل ما يقع تحت يديه على الأرض وعلى السجادة دون أن يدرى ما يفعل ..
وكانوا يطلبون له الطبيب فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. ويصبح البيت كله هرج .. وفى عذاب .. أن الخدم جميعا كرهوه وكرهوا مرضه ..
ان اللعنة قد حلت .. كان يثور فى وجه زوجته لأتفه سبب .. كأنها السبب فى علته .. وأصبحت لا تستطيع صبرا .. أحست بأن الخيط الذى يربطها به قد انقطع ..
***
كان السيد إسماعيل جالسا فى فراشه .. وقد أغفى لمدة ساعة ثم فتح عينيه ونظر إليها صامتا ..
وفى تلك اللحظة أدركت بوضوح أنها لم تعد تحبه ..
وقد ظل يحادثها معتذرا عن عصبيته وغضبه .. وكانت خديجة منقبضة النفس منحرفة المزاج ..
كانت تشعر بالنفور .. وهى تنصت إلى الألفاظ التى يستعملها فى أحاديثه .. ومع ذلك ظلت تلازم فراشه وغرفته .. حتى غادر الفراش واستطاع أن يخرج إلى السوق مرة أخرى .. وأن يسافر إلى المنيا .. وديروط ويشرف على أعماله هناك ..
وكانت هى تشعر بالراحة عندما يسافر .. تحس بأن البيت قد خلا من الصراخ على الأقل .. ومن عذاب التمريض .. ومن آلاف الأشياء التافهة التى يطلبها دون أن يكون فى حاجة حقيقية إليها ومن رنين التليفون فى كل لحظة .. ومن زعيقه مع الوكلاء والعملاء .. ومن غضبه الأجوف ..
*** 
وعاد ذات ليلة من ديروط وهو فى حالة غضب لم تر مثلها على وجهه .. وخشيت أن يكون قد حدث شىء للوابور .. الذى يدير الحلاجة .. ثم علمت منه أن بعض محصليه حصل مبلغ 120 جنيها ولم يوردها له ولا لوكيله .. وادعى أنها فقدت منه .. وقد أنذره إلى الصباح .. ليدبر المبلغ وإلا فسيبلغ البوليس ..
وروى إسماعيل لزوجته فى غضب :
ـ يسرق منى 120 جنيها الخنزير بعد أن أشبعته من جوع .. هذا جزائى والله لأحبسه ..
وفى الصباح سأل عنه ولما لم يحضر فى ميعاد القطار .. أبلغ البوليس .. وفى الليل شاهد السيد إسماعيل .. وهو يهم بركوب سيارته .. امرأة تتقدم إليه مسترحمة وأخذ بجمالها وفتنتها وعرف أنها زوجة المحصل .. ونظر إليها نظرة الذئب إلى فريسته .. وعيناه تلتمعان فقال لها أنه سيعفو عنه .. وسيتقدم للبوليس بذلك على شرط أن تتدبر هى وزوجها المبلغ ..
ـ من أين يا سيدى ..؟
ـ ليس هذا شغلى ..
وتركها .. وذهب بالسيارة .. وفى اليوم التالى .. ذهبت المرأة إليه فى الطاحونة تسترحمه وتبكى .. وفى الليل أطلق سراح الزوج .. وكانت الزوجة قد دفعت الثمن .. وأصبح إسماعيل يقضى ليالى ممتعة فى ديروط .. ويحس بأنه أخذ يستعيد شبابه .. وكان يغيب عن أسيوط أسبوعا واسبوعين .. مرة واحدة ..
وفى الصباح المقرور خرجت خديجة هانم زوجته إلى الحديقة .. فوجدت أن الريح قد أسقطت بعض البرتقال من أغصانه وجمعت بعض الورود والزهور فى يدها .. ثم استدارت قافلة إلى البيت ..
وهنا لمحت .. شابا يخرج من الباب إلى الطريق وفى يده حزمة من الكتب والكراسات وسألت خادمتها بديعة عنه .. فقد كانت تراه لأول مرة .. فقالت لها أنه إبن عبد الحفيظ أفندى وقد جاء منذ أيام .. وسكن فى غرفة الحديقة ..
وكان زوجها قد حدثها عنه .. ولكنها نسيته .. والآن تراه وقد وجدته وسيما ويعنى بهندامه وليس كأولاد الفقراء ..
وأصبحت من هذه الساعة ترسل له الشاى مع خادمتها كل صباح ..
والتقت به عرضا مرة ومرتين عند عودته من الكلية .. وسألته إن كان فى حاجة إلى شىء وهل النور قوى وتستريح إليه عيناه فى الاستذكار .. أم تغير له المصباح .. وطلبت من خادمتها أن تغسل له ملابسه وتكويها هى ولا حاجة لأن يرسلها إلى المكوجى .. ويكلف والده المصاريف .. وشكرها حسن برقة .. ووجدته لطيفا مهذبا .. ومعتل الصحة قليلا من أثر الاستذكار .. وأصبحت تأنس به .. وتمر عليه لتحييه فى كل صباح .. كلما خرجت إلى الحديقة .. أو لمحته من الشباك ..
ومر أسبوعان .. جاء فى خلالها زوجها ثم سافر مرة أخرى لعمله .. وأصبح حسن مع انشغاله بالمذاكرة شيئا جديدا فى حياة خديجة .. فكانت تسر كلما رأته .. ووقفت بجانبه لحظات تحادثه .. وتشجعه على العمل .. وتسأله عن كلية الهندسة التى يدرس فيها .. وعن أيام الامتحان .. وعن والدته واخوته فى البلد ..
وذات مساء .. أحست خديجة هانم بالرغبة فى أن تتمشى قليلا على النيل .. فخرجت من " السلاملك " الخلفى .. مع خادمتها بديعة .. ولما سارت بضعة خطوات .. أحست بالسكون وبرهبة الظلام .. فكرت راجعة .. ثم تذكرت حسن .. فأرسلت خادمتها فى طلبه ولما جاء أبدت له رغبتها فى أن يصاحبهما قليلا فى جولة قصيرة على النيل .. وسار بجوارها مسرورا .. ومتأخرا عنها خطوة .. وكانت هى والخادمة متقدمة قليلا .. وانطلق يحادثها بأدب ورقة .. وأحست بعد بضعة خطوات .. أنها أخطأت فى أن تصحب الخادمة .. أحست برغبتها فى أن تنفرد مع حسن فى هذا الليل .. وهذا الجمال .. ونظرت إليه متعجبة بعينين واسعتين .. ممتلئتين إلى أقصاهما بالحب ..
وقفت كالمأخوذة تتوقع أن يقول لها شيئا هاما .. شيئا يهز مشاعرها .. ولكنه كان خجولا .. وتعرف أن الفقر يعصره .. ويلجم لسانه .. ولكنها كانت تحس مع ذلك أن طريقا جديدا .. طريقا واسعا لم تعرف مثيله .. على وشك أن يفتح أمامها ..
وسألته .. وهى تنظر إلى عيون الخزان ..
ـ كم عدد العيون ..؟
ـ قد تكون مائة .. وأكثر ..
ـ ألا تعرفها بالضبط ..؟
ـ أبدا ..
ـ كيف هذا .. وأنت مهندس ..؟
ـ إن هذا لمخجل حقا ..ولكن سأعرفها من الغد ..
وابتسم وحلت عقدة لسانه وانطلق يحدثها عن رغباته وأمانيه كلها .. بعد أن يتم دراسته .. وكان يقول لها أن الحياة ستتطور بنا .. وسنبنى مئات السدود والخزانات وسينمحى الظلام من الريف .. وتضاء القرى بالكهرباء .. وستوجد المصانع الصغيرة والكبيرة .. وسنمد الطرق .. وسنبنى المستشفيات .. والمدارس .. وسيتعلم أبناء الفلاحين جميعا .. ويعيشون فى رغد آمنين من الخوف .. ومن الفقر اللذين يذلان الإنسان ..
وكانت الليلة ساكنة مقمرة .. وقفت خديجة تنظر تارة إلى الماء وتارة إلى شاطىء النهر الجميل .. وبجانبها وقف حسن .. وكان يوحى إليها بأن كل تلك الظلال التى على سطح الماء ليست ظلالا .. وأنه من الخير .. أن تنسى كل شىء مرة واحدة .. وأن تموت لحظات .. ثم ترتد إلى الحياة من جديد ..
وكان الشاطىء الهادىء الحزين .. يحدثها فى الواقع عن أشياء كثيرة ..
وكانت المرأة تنصت فى صمت الليل .. وكانت البهجة الكبرى قد ملأت نفسها .. ولم تر مثل هذا اليوم فى حياتها أبدا ..
كانت تحملق فى الفضاء طويلا بنظرات ثابتة ساكنة ..
كانت تحس أن شبابها قد عاد إليها .. وأن أمومتها قد تفتحت لأول مرة .. ونسيت عيشة النكد .. والزعيق .. والصراخ والسعال ودخان السجائر ..
وفى الأسبوع الثالث من الشهر .. عاد إسماعيل إلى بيته واستقبلته زوجته كعادتها ثم ذهبت لتنام .. وبعد أن انطفأت الأنوار الخارجية .. كان يخيم على البيت سكون رهيب .. وراح الليل يمر ثقيلا متباطئا ..
وسمع اسماعيل صرير الباب فجأة .. وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل المنزل ويقرع مصراع الشباك فى حذر .. فازداد خوفه .. ثم تحرك بفعل الغريزة وأطل من النافذة على الباب الخارجى .. فوجد حارسه همام متيقظا وفى يده سلاحه .. فعاد إليه الاطمئنان ولكنه ظل يسمع حركة فى داخل البيت .. حركة خفيفة كتحركات قطة على الخشب .. وفكر .. هل ترك السفاح القاهرة .. وجاء إلى الصعيد .. وتسلل فى خفة الثعلب .. إلى بيته .. فى غفلة من الخفير .. ربما تسلق السور من الخلف .. وصعد كعادته من السلم الخلفى ..
ظل فى دوامة من الهواجس .. وعاد للفراش .. ثم تركه ورجع إليه مرة أخرى وتناول مسدسه من تحت الوسادة .. وحركه ليرى مشط الرصاص .. ثم أبقاه فى يده .. وفى تلك اللحظة عاد السكون إلى البيت .. فاضطجع مسترخيا .. على المخدة .. وهنا سمع صرير باب الصالة بوضوح .. فوثب إلى النافذة .. ليهتف بالخفير .. ولكنه استحيا وخشى أن تذهب هيبته مع الخدم من هذه الحركة ..
فاقترب من باب غرفته والمسدس فى يده .. وكانت الأقدام فى الصالة تقترب منه .. ففتح الباب فى حذر ليباغت اللص قبل أن يباغته .. فوجد زوجته تتجه إلى غرفتها .. وأحست به فاحمر وجهها .. وخشيت أن يكون قد بصر بها وهى تدور حول غرفة حسن .. ولكنها استبعدت هذا الخاطر بعد أن رأت استحالته .. وتغلبت على انفعالاتها وقالت :
ـ ماذا .. هل أخفتك ..؟
ـ إنى تصورتك السفاح ..
ـ السفاح ..!
وضحكت ..
ـ ولماذا لا .. من السهل عليه أن يأتى من القاهرة إلى هنا ..
ـ هذا صحيح .. ولكنه لا يأتى إلى بيتك ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأن السفاح لا يدخل بيوت السفاحين ..!
وضحكت بدلال لتغطى المقصود من كلامها .. وتصورها عرفت علاقته الأخيرة بزوجة المحصل فشحب لونه .. ثم رجع يسترضيها بعد أن دخلت غرفته .. وأخذ يحدثها عن مرضه وأعصابه ليستدر عطفها من جديد وقال :
ـ أن أية هزة تخيفنى الآن خوف الموت .. وكل شىء تعودت أن أرى فيه معنى الحياة وبهجتها فى شبابى قد تحول الآن إلى علقم .. فقد أظلمت أفكارى ..
ـ لا تفكر فى المرض هكذا دائما .. وتلف كل شىء فى سواد .. فكر فى رحمة الله ..
ـ أجل .. هذا ما ينقصنى فى الواقع يجب أن أفكر فى رحمة الله .. لترتد إلىَّ روحى ..
وبقيت معه قليلا ثم تركته لينام ..
*** 
وبعد غروب اليوم التالى علمت السيدة خديجة من خادمتها أن حسن مسافر إلى بلدته الآن .. ويعد حقيبته الصغيرة ..
وكان زوجها فى الخارج فخرجت بفستانها الوردى .. وتخطت ممر الحديقة .. ووجدت باب غرفته مفتوحا .. فدخلت عليه ووجدته قد اشترى بعض الأشياء الشعبية الرخيصة لأخوته .. وأخذ يضعها فى الحقيبة .. وأحس بها فتلفت محمر الوجه من الخجل فقد كانت هذه أول مرة تدخل عليه فيها الغرفة .. وقدم لها كرسيه الوحيد ولكنها لم تجلس وأخذت ترتب له الأشياء .. وسألته :
ـ مسافر ..؟
فقال برقة :
ـ آه .. وجدت توفيق بن السيد عبد المجيد مسافر بالعربية .. دلوقت .. فقلت نروح معاه نشوف أمى .. وأخوتى .. ونرجع بكره .. أو بعده ..
ـ فى الليل ..؟
ـ دى .. ديروط .. كلها ساعة ..
وكانت تود أن تمنعه وتقول له لا داعى للسفر فى الليل .. ولكنه عندما ذكر لها أنه ذاهب ليرى أمه .. استحيت أن ترده عن هذه الرغبة الحبيبة وأخرجت الأشياء من الحقيبة وأخذت تضعها له من جديد وهى تشعر بلذة لأنها تلمس قميصه وبيجامته .. لأول مرة ..
وقال وهو يديم النظر إلى وجهها ويحس بأريج عطرها وأنفاسها فى الغرفة :
ـ لقد رأيتك فى الليلة الماضية فى الحديقة .. ورأيتك وأنت تنظرين إلى نافذتى ..
ـ أجل .. عندنا شجرة تفاح جديدة .. ورأيتها تحمل ثمارها لأول مرة .. وقطفت لك منها أول تفاحة .. ولكن عندما اقتربت من غرفتك .. رأيتك تصلى الصبح .. وخشيت أن أقطع عليك صلاتك فرجعت سريعا .. بالقوة التى كانت تقربنى منك ..
ـ وأين التفاحة ..؟
ـ إنها معى .. وسأضعها لك فى الحقيبة .. لتأكلها إن جعت فى الطريق ..
ونظرت إلى كتبه فى الغرفة .. وقلبت فى كتاب بالإنجليزية .. وسألها :
ـ أتقرئين الإنجليزية ..؟
ـ لا .. أننى تعلمت فى المدارس الفرنسية .. وقرأت مئات الروايات ولكننى .. انقطعت الآن عن القراءة ..
ـ سأجىء لك ببعض الروايات الفرنسية من القاهرة عندما أسافر إليها فى الصيف ..
ـ أوه .. كم أكون مسرورة .. أنها أجمل هدية ..
ونظرت إليه مبتسمة .. ووجهها يرف كالارجوان ..
وتناول حقيبته .. وظلت تنظر إليه صامتة ..
ـ ماشى ..؟
ـ أيوه ..
ـ مع السلامة .. سلم على ماما ..
وتناول يدها .. فضغط عليها .. وانطلق مسرعا إلى الخارج .. وظلت ترقبه من الشرفة حتى طواه الظلام ..
*** 
وفى الصباح .. علمت بالخبر المشئوم من زوجها .. علمت أن حسن لقى حتفه مع صاحبه فى الطريق قبل أن يبلغا بالسيارة مدينة الحواتكة .. انقلبت بهما السيارة فى الترعة .. وأخرجت الجثتان على ضوء القمر ..
القى إليها زوجها بالخبر دون انفعال أو عاطفة إنسانية وظلت فى مكانها شاردة .. وتحركت من أعماقها الرغبة المحمومة .. فى أن ترى جثته على الأقل وتلقى عليها النظرة الأخيرة .. كانت تود أن تنطلق بسيارتها إلى هناك ..
ولكن كيف تفعل هذا .. وماذا يقول الناس .. أمسكها عقلها ..
وتحركت من البهو ثم عادت إليه وقد جفت عبراتها .. وشرد دمها كله .. لم يعد فيها حس للحياة .. ورأت زوجها فى مكانه كما تركته .. وكان قد انتابه السعال بعنف ..
وحدثت نفسها بمرارة :
ـ تعيش أنت .. ويموت حسن المسكين .. هكذا الحياة ..
واتجهت إلى غرفة الشاب .. أنها تود أن تفعل شيئا هناك يريح أعصابها .. بعيدا عن الأنظار .. أنها تود أن تموت لحظات .. لتصبح ذكراه حية عاطرة ..
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . المساء بالعدد 1254 بتاريخ 25/3/1960 وأعيد نشرها فى كتاب تحت اسم " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ

 









 

                              الغريب


     سمعت رقية الكلاب تنبح بشدة .. فأطلت من باب الكوخ وحدقت فى الظلام فوجدت أنها تحاصر رجلا يصعد التل وقد سدت عليه الطريق وأخذت تتوثب حوله وتتهارش فجرت تدفع الكلاب عن الرجل بصوتها ويديها .

    ونظر إليها الرجل وهو يحاول أن يتحرك بصعوبة .. كانت الكلاب قد نهشته فى أكثر من موضع من جسمه .

     ولما رأت رقية الدم على ساقه .. جرت وحملت المصباح من داخل الكوخ وسقط الضوء على وجه الرجل .. فعرفت أنه غريب عن العزبة وعن أهل القرية .. وكان وجهه أسمر .. نابت اللحية .. خفيف الشارب ..

     وأخذ يرش على الجرح التراب الناعم .. ليوقف الدم ..

     فقالت وهى تقرب المصباح ..
     ـ عنـدنا قليـل من البن .. هل تستطيع أن تمشى إلى الكوخ ؟ ..
     ـ أستطيع .. لقد خف الألم .. وأريد أن أشرب .
     ـ تفضل ..

     وقالت لما بلغا باب الكوخ واستراح الرجل الجريح ..
     ـ لماذا مررت من هناك .. وهيجت عليك الكلب ؟ .. الطريق من شرق ..
     ـ أنا غريب .. ولا أعرف طرقا .. فاتتنى المعدية .. وخرجت من الساحل فوجدت الظلام من حولى ولم أجد غير الضوء فى كوخكم .. فسرت إليه .. لماذا كل هذه الكلاب ..؟
     ـ ليس عندنا سوى كلب واحد ..
     ـ والباقى ..؟
     تتجمع دائما على الغريب ..
     ـ لقد نجوت منها .. لأنها انقسمت فريقين .. وأخذت تتهارش .. وتتقاتل .. أدرك بعضها أنى غريب وأحتاج للمساعدة .. حتى الكلاب فيها الأخيار والأشرار ..

   وابتسمت المرأة ..
     ـ ولكن لماذا تسير فى الليل .. وليس معك حتى عصا ؟
     ـ هكذا تعودت .. لم أكن أقدر .. أنى سأتأخر .. ذهبت من الفجر إلى السوق لأشترى جاموسة ..
     ـ ولماذا لم تشتر ..؟
     ـ وجدتها غالية .. قالوا لى أن الجاموس فى جهات ملوى رخيص ولكنى وجدتها غالية بثمانين وتسعين .. ومائة جنيه .. وعندنا فى سوق الاثنين .. وسوق الحواتكة .. أرخص .. وأوفر المشوار ..

     وخيم الصمت ..

     وسألت وقد رأت الاعياء على وجهه ..
     ـ جائع ..؟
     ـ لم آكل منذ الصباح ..

     ودخلت الكوخ .. وخرجت تحمل له الطعام ..

     فقال وهو ينظر إلى وجهها الصبوح ..
     ـ حتى الطعام نصيب ..

     فابتسمت .. وأخذت تراقبه ـ وهو يأكل ـ صامتة .. كان وجهه وجه إنسان يتألم ..
     وقالت ..
     ـ لو رآك همام .. وأنت مار من تحت كان " طخك " ..
     ـ هل فى أرضكم ذهب ؟..
     ـ ليست الأرض هى السبب .. وإنما البهائم ترعى طول الليل .. منطلقة من العزبة دون أن يحرسها أحد .. وندر أن يمر من هنا الغريب .. ندر ..
     ـ ولهذا كلابكم مسعورة ..
     ـ إنها لاتحب الغريب ..
     ـ وكيف أخرج من العزبة ..؟

      وفكرت قليلا .. ثم قالت ..
     ـ سيأتى همام .. بعد قليل .. ويمشى معك ..

     وبرغم خواطرها التى كانت تشغلها لم يمنع الأمر من أن تكرمه كضيف .. ففرشت له حراما ليتمدد .. حتى يأتى زوجها ..

     واضطجع الرجل .. وجاء كلب ضخم وربض بجانبه ..
     وغفا .. واستيقظ بعد منتصف الليل .. على زمجرة الكلب وهو يرحب بمقدم صاحبه .. وتحدثت رقية مع زوجها .. وأشارت إلى الرجل الغريب .. فتقدم همام اليه يفحصه ببصره .. ثم صافحه ..

     وجلس الرجلان يتحدثان .. وعيونهما تبرق فى الظلام .. وكان السكون شاملا وكان همام جامد الملامح ولايعبر وجهه عن شىء ..

***

     ووضع الرجل الغريب رأسه على الفراش .. ونام همام مثله خارج الكوخ والبندقية بجانبه .. وظلت رقية .. ساهرة .. ثم غلبها النعاس فنامت وهى جالسة .. فى مدخل الكوخ ..

     ولما فتحت عينيها .. كان الرجل الغريب يصلى الفجر .. ثم سوى ملابسه وطوى الحرام ووضعه بجانبه ..

     وسمع صوت رقية ..
     ـ ذاهب .. هكذا .. فى البكور ؟
     ـ أجـل .. يجب أن يرانى الأولاد قبل الشمس .. وإلا شغلوا ..
     ـ مع السلامة .. سأحبس عنك الكلاب .. اتجه إلى الشرق .. واجعل غيط الأذرة على يمينك دائما ..

     ولمـــا هم الرجـل بالانصراف .. سمعت رقية زوجها يقول ..
     ـ سأرافقه .. حتى يخرج من العزبة ..

     ونهض همام .. وتناول بندقيته .. ونظرت المرأة إلى زوجها .. ولم تنبس وسار الرجلان فى الطريق ..

                        ***   

     وبعد ساعة .. رأت زوجها عائدا .. ودخل صامتا وعلق البندقية .. ووضع شيئا فى شق الحائط ..

     فنظرت وذعرت ..
     ـ ما هذا انه منديل الرجل .. و .. و .. نق .. ونقوده

     فنظر اليها همام وقال بهدوء ..
     ـ أعطانى .. ثمن الجاموسة .. سأشتريها له من سوق السبت ..

     فحدقت فى وجهه دون أن تطرف .. ثم وضعت ماسورة البندقية عند أنفها .. وقالت بصوت مبحوح ..

     ـ لقد قتلت الرجل .. الذى استجار بك من الظلام .. أى عار .. شرير .. قاتل ..

     ـ أخرسى يا كلبة ..

     ـ لقد غرق لك ابن .. وأكلت النار الثانى .. أما الثالث الذى فى بطنى .. فلن تراه .. لن تراه .. لن تراه ..
     ـ ستخنقينه .. ؟
     ـ لن تراه .. لن أجعله يرى وجه قاتل .. شرير ..
     ـ أخرسى ..

     وتركها وهو يلوح بيده وخرج ..

      برغم كل ما سمعته عنه ولكنها كانت تكذب نفسها وتكذب الناس لم تكن تتصور قط أنه قاتل .. ولكن الآن كيف تخادع نفسها وقد لمست كل شىء ..

      تبعته وركزت حواسها ورأته قد أخذ يدور ويهبط المنحدر .. وتناولت البندقية نفسها سريعا ..

     وصوبت .. ثم أطلقت النار .. ورأته يتدحرج ثم يسقط فى الوحل .. ولما رفعت عينيها عن الماسورة .. رأت حمامة بيضاء .. تحلق فى الجو ثم رأتها تهبط لأول مرة على سطح الكوخ ..
============================ 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية فى 9|10|1956 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان 1961


















رجل يعيش


كانت الريح الساخنة تهب محملة بزوابع الخماسين .. وكان الوقت ظهرا والحجرة مغلقة النوافذ .. وكانت هناك مروحة كهربية صغيرة موضوعة فى جانب ودائرة على أشدها ولكن لم يظهر لها أثر فى تلطيف الجو ..
وكان فى الحجرة خمسة من الموظفين جلسوا فى صمت .. مكبين على الأوراق التى أمامهم .. وكان أحدهم يدخن فى كسل .. ويرسل رأسه إلى السقف كأنه يجمع شتات ذهنه .. والآخرون جلسوا وعلى وجوههم الضجر ..
وكان الجو كله يوحى بالكآبة والخول والموات .. ورن التليفون فبعث الحياة فى الغرفة .. لعدة دقائق ثم عاد السكون ..
وكان هناك طنين متصل .. طنين الذباب وهو يضرب بأجنحته على زجاج النوافذ المغلقة .. وكان هذا الطنين يختلط بصوت المروحة فيذوب فيه ويخرج بنغم رتيب منفر ودخل الفراش القاعة يحمل فناجين من القهوة وكان يتحدث بصوت عال ووزع بعض ما يحمله على الصينية ثم خرج يهرول بالباقى إلى الغرفة المجاورة ..
وبدت فى الممر الخارجى الذى يطوق الحجرات حركة أرجل رائحة وغادية .. ثم ظهرت سيدة وأطلت من الباب .. كأنها تود أن تدخل .. ثم بدا عليها التردد فوقفت فى مكانها ..
وأخيرا ولجت الباب بخطى رشيقة متأنية ..
وسألت أقرب شخص إليها عن رئيس المكتب فأخبرها أنه خرج لعمل قصير ودعاها الرجل لتستريح حتى يحضر ..
وتقدمت السيدة فى وجل إلى كرسى بجانب مكتب الموظف .. فجلست عليه وهى متجمعة على نفسها ..
وكانت متأنقة فى زيها وتبدو فى ثياب الحداد وبرغم مظهرها الأرستقراطى فقد كان يبدو عليها الرهبة .. وكان من يتأملها يدرك أنها تدخل مكتبا من مكاتب الحكومة أول مرة ..
وجلست ساكنة لحظات ثم أخذت تحدق فيما حولها .. وكان الموظفون واضعين رءوسهم بين الملفات التى أمامهم .. ولا يلتفتون إليها وفى الغرفة سبعة كراسى منها ثلاثة ممزقة تماما .. والمكاتب قديمة .. وباهتة وعليها آثار أكواب الشاى .. وهناك أوراق ممزقة وملقاة كما اتفق .. وبدت خيوط العنكبوت تنسج شباكها فى السقف وفى زوايا الجدار ..
وكان التراب على الأوراق وعلى الملفات .. والغرفة فى جملتها توحى بالإهمال والقذارة ..
وكانت السيدة متأففة من هذه القذارة ومن الجو كله .. ولكنها جلست صامتة وأخيرا أحست بالضجر ورأت أن تجىء لرئيس المكتب فى وقت آخر ..
وكان الموظف الذى أجلسها بجواره قد أحس بضجرها .. فسألها فى لطف عن حاجتها .. فحدثته بأمرها .. وهى تقدم له أوراقا جاءتها من المصلحة وتتعلق بمعاش تجمع لها ولم تصرفه منذ شهور ..
فنظر عبد الفتاح أفندى إلى الأوراق مليا .. ثم أبقاها فى يده وطلب من السيدة أن تستريح حتى يعود .. وخرج مسرعا ..
وعاد إلى السيدة بعد قليل وكان أنجز لها كل ما تطلب ..
وقال لها أنه سيذهب معها غدا إلى البنك ليساعدها فى اجراءات الصرف .. وشكرته السيدة عفاف برقة وقد عجبت لمروءة الرجل ..
وفى اليوم التالى .. انتظرها على باب البنك من الساعة التاسعة .. وأتم لها اجراءات الصرف فى أقل من نصف الساعة .. وكان المبلغ الذى تحمله كبيرا فخشى عليها من السرقة .. وظل فى صحبتها حتى بلغت عتبة بيتها ..
وعلى الباب .. وقف يسألها إن كانت فى حاجة إلى شىء آخر ..
واحمر وجه السيدة عفاف من الخجل .. فقد كانت فى حاجة إلى أشياء كثيرة ولكن هذا الإنسان تعب فى سبيلها دون مقابل ودون معرفة سابقة .. فكيف تكلفه أمرا آخر .. وهى لاتعرف حتى اسمه ..
ونظرت إليه فى استحياء .. كأنها تود أن تقول شيئا ولكنها لاتستطيع من فرط الخجل .. وعاود سؤالها .. فشكرته بحرارة خالصة من القلب وحياها وانصرف ..
ولقيها بعد ذلك بشهر .. فى وزارة الأوقاف .. وكان يبدو عليها أنها ضائعة بين المكاتب فلما لمحته تهلل وجهها .. وأسرع إليها .. وحدثته عن سبب وجودها هنا وعن حصة لها كبيرة فى الوقف .. وعن بيت لها بحدائق القبة بنته على أرض موقوفة وسبب لها المشاكل .. ودار معها على مكاتب المختصين ..
ومن هذه الساعة أصبح عبد الفتاح أفندى ينجز أعمال السيدة عفاف .. وكان يترك مكتبه ويلف ويدور لها ولغيرها .. وكان قميصه يتسخ من المشاوير ويتصبب جسمه بالعرق وتحمل بدلته من تراب الطريق ..
وكان عبد الفتاح رجلا أرمل .. فى الحلقة الخامسة من عمره .. وكانت زوجته قد ماتت منذ سنوات .. وحزن عليها حزنا شديدا .. لأنها اختطفت منه خطفا .. ماتت بعد مرض لم يمهلها .. وكان يحبها ويجعلها محور حياته وتركت له ابنا واحدا .. فعاش الأب ليربى ابنه .. ونشأ الابن وفيه الكثير من صفات أبيه وصفات أمه .. كان جسور القلب شجاعا وفيه من طيبة أبيه .. فلما نشبت معركة القنال تطوع مع الفدائيين وذهب إلى قلب المعركة .. وهناك استشهد ..
وحزن عليه عبد الفتاح أفندى فى صمت ودون ضجة كعادته .. وكان يخفف من وقع الحزن عليه أنه قدم أعظم قربان لوطنه ..
وبعد موت الولد الوحيد وجد الأب طاقته كلها تتحول لخدمة الناس .. وكان يخص الأرامل من النساء ومن لاعائل لهن بكل خدماته .. وشعر بسعادة ..
وكان يقف ويدور ويترك مكتبه من العاشرة صباحا ولا يعود إلا فى الواحدة بعد الظهر .. وينجز عمل مكتبه بعد انصراف الموظفين .. وكان فى اليوم الذى لايؤدى فيه خدماته لإنسان .. يحس بالضيق ..
وكان متوسط الطول .. سمين الوجه .. ويكون كرشه أول شىء بارز فى جسمه إذا تحرك .. وكانت المشاوير التى يعملها فى اليوم الواحد .. ومئات السلالم التى يصعدها .. وكل هذه الحركة المستمرة لم تغير شيئا من جسمه المكروش .. أو تزيل بعض شحمه ..
كان يمشى مسرعا ويتحدث بمثل سرعته فى المشى .. فقد كان وراءه أشياء كثيرة يعملها فى اليوم الواحد ..
كان ينزل فى الصباح ليقوم بمئات الأشياء لمئات الأسر .. يحمل لهذه السيدة بطاقة التموين ولتلك حجة الوقف ولهذه " سركى " المعاش .. ولأخرى " الشيك " على البنك ..
وكانت كل ذات حاجة فى مصلحة حكومية تقصده لأنه خير واشتهر بمعروفه وكان من يأخذ الأمور بظواهرها يتصور أنه " زير نساء " .. ولكنه كان كريم النفس منزها عن كل غرض ..
وكان يسعى للناس باخلاص وحرارة حتى أهمل شئون نفسه .. وجعله دورانه فى الشارع يهمل هندامه .. فكانت " بدلته " تبدو غير مكوية ومتسخة ومنفوخة الجيوب مما فيها من أوراق ذوى الحاجات ..
وكان لايحلق ذقنه بانتظام .. وفى رأسه الصلعاء تظهر بعض شعيرات بيضاء ..
وكان دائما بسام الثغر لم يكن هناك شىء يجعله يبتئس أبدا .. كان واسع الأمل فى الحياة شديد الإيمان بالله ..
ولقد استجابت له الحياة فعاشها لإسعاد الآخرين ..
*** 
وفى خلال قيامه بالأعمال للسيدة عفاف .. أصبح يتردد على بيتها ويجلس معها فى بهو البيت يشرب القهوة ويتحدث ..
وأحس بعد مضى سبعة شهور بأن هناك شيئا جديدا يتولد فى نفسه ..
وكانت تزوره فى المكتب فى أول الشهر عادة لينجز لها بعض الأعمال التى تتعلق بالمعاش وكان فى الأيام التى لايراها فيها يحس بوحشة .. وبأنه يعيش فى تيه ..
وكانت عفاف لاتزال جميلة كما كانت بالأمس .. وكان يكفى أن يلامسها شعاع جديد من العواطف من قلب رجل يحبها .. حتى تتحول إلى روح فتانة من الجمال ..
وأدرك عبد الفتاح أفندى أن حياته أصبحت متصلة بها وأنها النور الذى يطل عليه من الكوة الصغيرة التى فى بيته .. النور الذى سيخرج به إلى آفاق الحياة الفسيحة ..
وأحس بشىء جديد يتسرب إلى نفسه ..
لقد تفتح للحياة ..
لقد كان هناك نغم حلو يصدر من أعماق نفسه التى تحس بالسعادة ..
إن أنظار عبد الفتاح كانت معلقة بظل امرأة .. ظل امرأة كانت فى مكتبه منذ ساعات .. امرأة تجىء إليه فى اليوم الرابع من كل شهر .. ولقد انمحت منذ قليل .. أجمل النساء اللواتى شاهدهن فى حياته ..
منذ ثلاثة عشر عاما ماتت زوجته .. وعاش فى الفراق الأبدى ولقد ذهل عن نفسه وعن وجوده تحت طابع من الكآبة ..
وجاءت الضربة القاضية بعد موت ابنه ..
ثم عبر عن حزنه .. وعن صمته وعن حنانه الذى ذهب بأن أخذ يعيش للناس .. ومن حياته للناس التقى بعفاف ..
وكان كلما التقى بها يحس بوله ..
وتحس هى بعينيه تنطقان برغبة .. رغبة يعجز عن الافصاح به اللسان ..
وكانت الرغبة قد تبلورت فى نفس عبد الفتاح عن شىء .. عن شىء يريد أن يحققه فورا .. ولكنه كان كلما نظر إلى عفاف .. ورآها فى جمالها وأناقتها .. ومظهر الارستقراطية الذى تعيش فيه .. لا يجرؤ على الكلام ..
كان بعد موت زوجته لايفكر فى الزواج .. كان الحزن عليها قد أرمضه .. ومزق نياط قلبه .. فترك موضوع الزواج كلية .. ولما كانت عنده الرغبة فى أن يخدم الناس .. فقد تحولت طاقته كلها فى هذا السبيل وأصبح يجد السعادة كلها فى هذا ..
كان يلتقى ببعض السيدات الأرامل .. ولكن واحدة منهن لم تحرك رغبة قلبه .. فلما التقى بعفاف .. وعرف طباعها وذهب وجاء معها فى الشارع .. وصعد ونزل معها دور المصالح والمجالس الحسبية ودار فى كل مكان .. أحس بأن الله أوجد له أخيرا عوضا عن كل ما فات .. أوجد له راحة قلبه ..
***
وفى مساء يوم جميل قرع بابها .. وفتحت له بنفسها الباب ..
ونظرت إليه واستغربت زيارته فى هذه الساعة ثم وجدته يدخل إلى البهو الخارجى ويجلس .. دون أن تأذن له .. فاضطرت أن تطلب له القهوة ..
ورأته قد حلق ذقنه وتأنق على غير عادته ولكن وجهه يبدو عليه الارهاق الشديد .. وأنه يغالب حربا عنيفا بينه وبين نفسه .. وفتح فمه عدة مرات ثم أغلقه .. وكانت تنظر إليه فى تعجب .. وأدركت أنه يود الشىء الذى كانت دائما تتصوره كلما قام لها بخدمة ولكنه خجلان من النطق به ..
وتحركت يدها .. وفتحت حقيبتها الصغيرة ..
    وأخرجت منها جنيها .. وناولته له ..
فنظر إلى الجنيه وقد اصفر وجهه .. ثم تناوله منها وفمه يرتعش ..
 وضغط على الورقة فى يده وهو نازل على السلم حتى استحالت إلى عجينة من الورق كان يبذل كل ما فى وسعه لئلا يغمى عليه فقلبه يكاد يتفطر ورأسه يوشك أن ينفجر من الألم ..
وجلس على قهوة وجدها فى الطريق ورأسه بين يديه لقد أصبح عجوزا فى ساعة ..
كانت أفكاره قد وصلت به إلى أعمق أعماق بؤسه .. لم يبق له أحد .. ماتت زوجته ومات ابنه .. وطعنته هذه بنصل حاد .. وصل إلى أعماقه وخرج بالدم .. وهو الآن يموت ..
وهبت نفحة من النسيم البارد فأنعشته وكانت عجينة الورقة لاتزال فى يده فألقاها على الأرض .. ونهض بعدها وسار فى طريقه وعندما اقترب من تقاطع المرور وجد أعمى يعبر الطريق فى زحمة السيارات فأمسك بيده وظل معه حتى أخرجه إلى منطقة الأمان ..
وأحس بعد هذا العمل أن الطعنة التى تلقاها منذ لحظات قد ذابت فى صدره وذهبت كغيرها .. وأنه خلق ليعيش .. والحياة جميلة برغم ما فيها من حماقات البشر ..






ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 1334 بتاريخ 17/6/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ
 
         


    





الرمال




كانت ريح مايو تهب من النهر .. وكان قرص الشمس يسقط وراء الجبل ويعقبه السكون والصمت فى الريف ..
وكان الأنفار تجمعوا كعادتهم خارج مكان الحفر .. فى العراء .. وضعوا الآلات والفؤوس جانبا .. وأخذوا ينفضون التراب من وجوههم وأبدانهم .. ثم لبسوا الجلابيب فوق القمصان .. وأداروا المناديل والشيلان على اللبد البيضاء والحمراء .. وبعد أن فرغوا من هذا مدوا السماط .. فرشوا المناديل المحلاوى على الرمال .. وجلسوا حولها القرفصاء يتعشون ..
وكان الليل يسقط عليهم .. بظلامه .. ووحشته .. ومع هذا لم يستضيئوا بمصباح .. ظلوا فى العراء والظلام .. يستمعون إلى نباح الكلاب .. الصوت الوحيد الذى يمزق السكون المحيط بهم ..
وكانوا يحفرون فى هذه الأرض الجديدة .. جاءوا من بلاد مختلفة فى الصعيد .. من الجنوب والشمال .. يجمعهم عمل واحد .. وكان رئيسهم يونس على رأس " الترحيلة " جمعهم وحط بهم فى هذا المكان ليحفروا " البيارة " قبل أن يركب الوابور فى الأرض .. ولكن الأرض خانتهم فبعد حفر ثمانية أيام متصلة .. وعندما اقتربوا من الماء .. وأوشكوا على دق المواسير انهارت عليهم الرمال فجأة .. وطمرت رجلا منهم فأخذوا يحفرون من جديد .. ومنذ أكلت منهم " البيارة " أكلت من لحمهم وشربت من دمهم .. وهم يرهبونها ويخافونها كعدو رهيب ..
أقسى الأشياء عليهم .. أن يموت أحدهم فى الغربة .. ويضطروا إلى دفنه فى مقبرة غريبة .. وقد حدث هذا لهم ونزلت بهم الفاجعة التى حاولوا جاهدين أن يبتعدوا عنها .. فشلت حركتهم وشلت لسانهم وكان صدر كل واحد منهم يتكلم ..
فبرغم فقرهم وقسوة الحياة عليهم .. فإن حياة الرجل عندهم عزيزة ولا تقدر بشىء .. ولا تعوض .. أكلوا فى صمت والغصة فى حلوقهم .. وعيونهم تفيض من الدمع ..
وبعد أن فرغوا من الطعام طووا مناديلهم وفرشوا أحرمتهم ..
وكانت رقعة الأرض حولهم منبسطة .. ومساكن القرية تبعد عنهم بمقدار كيلو مترين .. وكان يذهب أحدهم كل ليلة يحمل لهم حاجتهم من الشاى والسجائر ..
كانوا يشربون الشاى بكثرة .. ويدخنون بكثرة .. وبعد الشاى ينامون فى أماكنهم ..
وكان إذا فرغ منهم الطعام يبعثون أحدهم إلى المدينة .. فيأتى لهم " بزوادة " أسبوع كامل ..
***
واستيقظوا ذات صباح .. على صياح بجوارهم .. ثم وجدوا خياما .. تنصب فى الأرض .. وحولها رجلان وبعض النساء .. وأطفال ..
وبعد أن نصبوا الخيام انطلق الرجلان على الحمير .. وبقيت النساء .. تربط العنزات .. وتجمع الحشائش .. وأدرك الأنفار أن القادمين الجدد من الغجر ..
وسروا لما تقدمت واحدة من النساء تعرض عليهم كل مايحتاجونه من أشياء .. كان معها الشاى والصابون .. والمناديل .. والفانلات .. والدمور .. والغزل .. والحلقان .. والغوايش .. وكل ماتتزين به النساء فى القرية ..
واشتروا من الغجرية .. الشاى .. والسكر .. والصابون .. وأصبحوا لايذهبون إلى القرية اطلاقا ..
***
وظل الأنفار صامدين برغم أن الأرض تخونهم .. وتنهار عليهم من الجوانب .. وسعوا دائرة الحفر .. وفعلوا كل مافى طاقتهم حتى لاتدفنهم الرمال .. ومع هذا فكل من كان يهبط إلى القاع ويصعد كان يحس بقلبه يتمزق ..
وكان يونس يرى هذا .. يرى خوف الأنفار من البئر ومن الأرض التى يقفون عليها .. كان كل نفر يتصور أنها ستبلعه يوما .. وأن دوره آت .. وكانوا كلما تعمقوا فى الحفر يحسون بازدياد الخطر ..
فى ضحى يوم .. انهارت الرمال على أحد الأنفار .. وكان رأسه ظاهرا فأخرجوه بسرعة .. ولكنه ظل فى العراء مريضا لايقوى على الحركة .. وكان يهذى .. كأنما أصابته الحمى ..
ولم يتوقف العمل برغم هذا كله .. حفروا للمرة العاشرة .. وانتهى الحفر .. فى ساعة الظهر .. فوضعوا ما بأيديهم ليستريحوا قليلا ويتغدوا .. وبعد الغداء تناول حسان الآلة على كتفه وهبط ليدق الماسورة ولكنه بعد أن نزل على الدرجات الرملية قليلا توقف فى مكانه .. ثم مالبث أن صعد ثانية .. فقد لاحظ أن الجدار قد تشقق وسينهار .. وعرف الأنفار ماحدث وتجمعوا على الحافة ووقف يونس حائرا .. وجاء المهندس وصاحب الوابور ..
وصاح يونس :
ـ يا جدعان عيب .. واحد ينزل ..
فنظر الأنفار بعضهم إلى بعض ولم يتحرك أحد .. كانوا ينظرون إلى أعماق البئر ويرتجفون .. وقال يونس وهو يخاطب شابا هناك فى الصف ..
ـ انزل يا على .. انزل .. عيب عليكم يا جدعان ..
وعاد الصمت والوجوم .. وكانت العيون تحدق فى القاع .. وقطع صاحب الوابور هذا السكون بقوله :
ـ من ينزل أعطيه هذه الورقة ..
وأخرج ورقة بجنيه ولوح بها فى وجوههم .. ونظروا إليها وتعلقت عيونهم بها لحظات .. ثم عادت الوجوه إلى وضعها الأول .. لم يعبأ أحد بهذا العرض ..
وظهر الغضب على وجه يونس .. وصاح صاحب الوابور :
ـ اعطيه خمسة .. خمسة جنيهات ..
وعاد الصمت والوجوم .. وفجأة سمع الأنفار أحدهم يقول :
ـ أنا نازل ..
وكان عبد العال المتكلم .. شابا فى الثانية والعشرين من عمره .. وفتح الواقفون فمهم .. ولكنه لم يفسح المجال للتردد .. وتناول الآلة على كتفه وهبط فى سكون .. ولم يكن قلبه هو الذى ينبض بل كانت القلوب الواقفة على رأس البئر هى التى تنتفض كالطير المذبوح .. وسمع لفظة .. مسكين ..
ولكنه لم يلتفت ويرفع رأسه ليرى الذى قالها .. أحس بأن جسمه كله قد أصبح فى قوة الجلمود .. وأن قلبه قد تجمد كذلك ..
وكان جسمه قد نضح بالعرق .. نصف الدقيقة ثم جف .. وكذلك جف لسانه وكانت عيناه مركزتين إلى أسفل .. إلى دائرة قطرها متر واحد .. حيث الظلام والموت .. ولكن رجليه كانتا تهبطان الدرج الرملى كأنما تدفعه قوة خفية إلى المصير المحتوم ..
وكانت سلسلة فكره قد توقفت ثم برزت صورة أمه .. التى عشى بصرها فى القرية وفكر فى أنه ربما يلاقى الموت لأجلها .. ووصل إلى القاع وانقطعت صلته بالعالم ..
وبعد ربع ساعة مرت على الواقفين على السطح كالدهر .. رآه الناس يصعد .. ولكن وجهه كان مروعا .. كان جامدا .. أغبر .. فلم يجرؤ إنسان على أن يوجه إليه كلمة ..
وعندما تناول الورقة المالية تقلصت عليها أصابعه .. كان يشعر أنه باع بها روحه ..
وفى فورة الغضب على نفسه .. تناول حزمة ملابسه .. وسار فى طريق المحطة وتركوه يذهب ..
***
ولما بلغ المحطة الصغيرة بعد ساعة .. عرف أن آخر قطار مسافر إلى الصعيد تحرك من دقائق .. فخرج إلى طريق السيارات ليذهب إلى البندر .. ولمح وهو يعبر الكوبرى المقام على ترعة الابراهيمية .. امرأة مقبلة من بعيد .. وعلى رأسها لفة ولما اقتربت منه عرف أنها الغجرية التى حطت رحالها هناك .. بجوارهم فى الوابور ..
وسألها :
ـ جاية من ديروط ..يا ناعسه ..؟
ـ أيوه ..
ـ وماشية وحدك فى الليل .. مش خايفه ..؟
ـ من إيه .. الغجرية .. لاتخاف .. وأنت رايح على فين ..؟
ـ مروح البلد ..
ـ خلصتم ..؟
ـ لا .. ولكنى ذاهب .. معاكى سجاير ..؟
ـ أيوه ..
وأنزلت ما على رأسها .. وأعطته عشرة سجاير ..وناولها الورقة ..
ـ إيه دا ..؟
ـ ورقة بخمسة ..
ـ أوعى تكون قتلت رسلان ..؟
وضحكت ..
وسأل وهو ينظر إلى عينيها الناعستين ..
ـ رسلان مين ..؟
ـ جوزى ..
وضحك ..
ـ لم أقتل أحدا .. وإنما قتلت نفسى ..
وحكى لها ما جرى ..
فابتسمت وقالت له :
ـ خلى الورقة معاك صحيحة .. روح بيها .. والسجاير هدية منى .. لكن ليه زعلان من نفسك .. بالعكس .. أنت شجاع ..
ـ حسيت بكده .. ومش عارف السبب ..
ـ تعال .. امشى .. معايا شويه .. مفيش عربيات دلوقت .. سافر بكره ..
وسار بجانبها .. وهبطا من فوق الجسر إلى حقول القمح .. ولفهما .. الظلام .. والسكون ..
وأحس براحة وهو يمشى مرافقا لها ..
وأحس بأن نفسه تعود إليه ساكنة مطمئنة ..
وأحست به يتلفت كأنه يبحث عن مكان أو طريق آخر يسلكانه ..
ـ مالك .. لسه زعلان ..؟
ـ أبدا .. خلاص نسيت كل حاجة ..
ونظر إلى عينيها .. وشعر بأنها تسيطر عليه ..
ـ راجع معايا الوابور ..؟
ـ أيوه .. لكن مش حنام هناك .. حنام بعيد عنهم .. وفى الفجر ماشى .. وشعر بالقلق لأنه مذ تركا المحطة وهو يود لو يضمها إليه .. ولكنه خاف أن تصرخ .. فيقتله الفلاحون فى الحقول المجاورة ..
ومشى بجوارها قلقا معذبا .. يحس بضربات قلبه .. حتى اقتربا من تل قريب من خيمتها .. فتوقف .. وقال لها :
ـ سأنام .. هنا ..
وتركها .. تذهب وحدها ..
وفى آخر الليل أحس بجسم فى نعومة الرمال يلتصق به وهمست باسمه فعرف صوتها وضمها إلى صدره .. فى نشوة عارمة ..
*** 
ولما فتح عبد العال عينيه فى الصباح .. لم يجد ناعسه بجواره ..
ووجد خيامهم قد رحلت .. وتلمس الورقة ذات الجنيهات الخمسة التى كانت فى جيبه فلم يجدها ..
وبعد ارتفاع الشمس .. رآه الأنفار يقبل عليهم من بعيد وكان كعادته يتجنب الطريق المألوف .. ويغوص بقدميه فى الرمال .. وقد اتقى بيده عين الشمس ..
ـــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 103 فى 16/9/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ـــــــــــــــــــــــــــ

















    





اللـوحــة


     كان حسام الدين رساما مشهورا ولوحاته الفنية حديث الناس فى المجتمع ..
     وكان يسكن فى " فيلا " صغيرة من طابق واحد فى عزبة النخل بعيدا عن المحطة .. وكان يحيط بالفيلا حديقة برية نمت كما اتفق كأنها تسقى بماء الأمطار .. وتركت أشجارها وكل ما فيها من نبات وزهر للمقادير .. فمنذ وفاة زوجته .. وهو يعيش وحيدا ولا يدخل بيته خادم ولا بستانى ..
     كان يأكل فى مطاعم القاهرة ويرسم لوحاته فى الأندية .. ويذهب إلى الفيلا فى آخر قطار لينام ..
     ومرت حياته على هذا المنوال البوهيمى .. شهورا عدة .. وحدث فى صباح يوم من أيام الشتاء .. وكان نازلا من القطار فى محطة كوبرى الليمون كعادته .. فبصر بفتاة تجلس وحدها على مقعد فى المحطة ..
     وكان وجهها معبرا ويبدو عليه الارهاق الشديد ..
     ثم انطلق لشأنه ..
     ولما رجع فى الليل ليركب آخر قطار ذاهب إلى المرج .. رآها جالسة على المقعد نفسه .. وكان قد أمضها الانتظار وحطم أعصابها .. فأخذت تتلفت فى قلق وتفحص كل الخارجين والداخلين من باب المحطة .. ثم ألقت برأسها على كتفها مستسلمة وفى تلك اللحظة تقدم إليها حسام الدين .. فركبت معه القطار إلى البيت ..
     وكان فى وسط الحديقة بئر عليه دلو صغير .. فكانت مديحة .. تقضى الفراغ فى تحريك الدلو وسقى الأشجار .. وتجد فى ذلك لذة محببة .. وكان حسام يشاركها أحيانا فى سقى الحديقة ..
     كانت تعرف طباعة وتعرف أنه لا يحب الأيدى الغريبة التى تعبث فى لوحاته .. وألوانه .. فكانت تحافظ على أدوات عمله ولا تدع أحدا يدخل البيت فى غيابه ..
     وكانت تتركه عصر كل خميس .. وتعود إلى عزبة النخل فى صباح السبت فى أول قطار .. يفتح عينيه على وجهها الجميل ..
     وكانت تعود من غيبتها حزينة .. وقد ذهبت نضرة وجهها ..
     فسألها مرة :
     ـ إذا كان السفر يرهقك فلماذا تسافرين ..؟
     ـ أنه لا يرهقنى .. وهو أمر لابد منه ..
     ـ كما تحبين ..
     وكانت وادعة وتحسن أمور البيت وتعرف طباعه وتحرص على راحته .. حتى حببت له الإقامة فى هذا المكان المقفر .. وأصبح يخرج الحامل إلى الحديقة .. ويجلس يرسم ساعة وساعات مستغرقا فى عمله .. فإذا ألقى الفرشاة جانبا .. كانت الشمس قد أذنت بالمغيب .. ويكون التعب قد نال منه .. وفى هذه اللحظة تظهر مديحة فى ممر الحديقة حاملة صينية القهوة .. فيتناول منها الفنجان ويأخذا فى فنون الأحاديث ..
     وكان قد رسمها .. عارية .. ولابسة .. فى لوحات كبيرة .. ولكنه لم يعرض هذه اللوحات .. وجعل الوجه شبه مطموس .. ومذ دخلت بيته وهو يشعر بالنشاط فى جسمه وفى عقله .. وذهبت عنه الغمة التى نزلت به بعد موت زوجته .. وأصبح يجد فى مديحة العوض .. والأنثى التى يتمناها الفنان ..
     ولكنه لم يشاهد مثل هذا الوجه المعبر .. وفكر فى حياتها معه .. وحرصها على راحته وسعادته .. وفى انسانيتها ورقتها .. واهتزت مشاعره .. وقرر أن يحدد علاقته بها .. وأن يتزوجها ..
     ورأى أن يفاجئها ذات مساء بالمأذون داخلا معه البيت ..
     وفى الأسبوع الذى قرر فيه الزواج بها .. اشتعلت نيران الحرب فى القنال وابتدأت الغارات .. واشترك معظم الرجال فى المعركة .. وكفنان فكر فى أن يشترك فى المعركة بريشته .. ويرسم لوحة كبيرة يعرضها فى ميدان المحطة .. أو فى طريق الجنود الذاهبين إلى الميدان ..
     وفى وقت الغارات والظلام والقنابل .. كان يعمل بذهنه .. ولا يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل ..
     ولكن بعد مضى أربعة أيام كاملة .. من العمل المتصل .. لم تعجبه اللوحة ووضع الريشة جانبا .. واعتمد برأسه على راحته ..
     وسألته مديحة وهى تقدم له القهوة :
     ـ ما لك ..؟
     ـ اللوحة .. كما ترين .. مطموسة .. ولا تعبر عن شىء ..
     ـ حاول غيرها ..
     ـ سأحاول .. ولكن ما النتيجة ..؟ ستكون مثلها ..
     ـ ولماذا تقدر أن تكون مثلها ..؟
     ـ لأنى أرسم نفسى .. أرسم طبيعتى المصرية السمحة .. طبيعة شعب مسالم .. يحب السلام .. ولا أعرف روح الشر .. التى تحرك هؤلاء الأوغاد ..
     ـ وما العمل إذن ..؟
     ـ يجب أن أذهب إلى ميدان القتال .. وأرى وجوه الوحوش الآدمية .. التى تدمر البيوت وترسل الصواعق من السماء ..
     وفى اليوم التالى حاول أن يذهب إلى بور سعيد فلم يستطع ..
     فعاد إلى بيته وفى رأسه فكرة جديدة .. ووجد فى البيت غلاما فى الثامنة من عمره يجلس بجانب مديحة وعرف منها أنه ابن خالتها وأنه جاء يقضى معها بضعة أيام خلال عطلة المدارس .. التى أغلقت بسبب الحرب ..
     وسر حسام لوجود الغلام سرور مديحة به .. وكان يسمع صوته فى البيت .. وحركته الدافقة ..
     وكانت مديحة فى أثناء الغارات الشديدة تجذب الغلام إلى صدرها وتمنعه من الحركة وكانت إذا ذهبت إلى السوق فى الصباح تأخذه معها ..
     وكان أحيانا يذهب إلى السوق وحده ليشترى بعض الأشياء الصغيرة كالصابون والسجائر .. والحلوى ..
     وبعد يومين اثنين أحسا بقيمة الغلام .. وضرورة وجوده معهما فقد كان يشيع فى البيت الحركة ..
***
     وذات مساء .. وكان حسام الدين مشغولا برسم لوحة كبيرة .. سمع صفارة الإنذار .. فوضع الفرشاة جانبا .. وأطفأ المصباح وتمطى .. وقال فى مرارة .. وهو شاعر بالإخفاق :
     ـ لا فائدة ترجى .. برغم هذا التعب .. والصورة لا تعبر عن شىء على الاطلاق ..
     وسمعت مديحة فجزعت وسألته :
     ـ لا تعبر عن شىء ..؟
     ـ إطلاقا ..
     وخيم الصمت .. وكانت قد وضعت الغلام فى الفراش ودثرته .. فلما اشتد ضرب القنابل عادت وحملته وهو نائم .. وجلست فى الصالة بجانب حسام .. وشعر بكآبة ..
     وقال حسام وكأنه يسمع هاتفا :
     ـ أشعر بأننى سأموت .. كيف نواجه الشر ..؟
     ـ بقلب صلد ..
     ـ هذا صحيح .. ولكن هناك أناس فى العالم يصنعون الحروب .. ويعيشون ليدمروا حضارة البشر .. فكيف نواجههم .. وكيف نسحقهم ..؟ هذا هو السؤال .. منذ آلاف السنين وهم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال .. فكيف نواجههم بقوى الخير التى فى الإنسان ..؟ إذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحقونا .. وإذا أرسلنا عليهم القنابل المدمرة وصفونا بالتوحش .. هذا شىء يحير ..
     وابتسمت وهى تستمع إلى حماسته .. ثم سمعته يقول وهو يخصها بالحديث :
     ـ أشعر بأنى سأموت اليوم أو غدا .. وليس لى سواك .. فأرجو أن تدفنينى فى الإمام ولا تدفنينى فى المجاورين .. بجوار عبد الخالق ..
     وضحكت .. حتى اهتز جسمها ..
     كان يحدثها دائما عن قريبه عبد الخالق هذا .. بمثل هذه المرارة ..
وعصر يوم من أيام السبت وكان النهار قد انقضى من غير غارات شعر حسام بحاجته إلى السجائر .. فأرسلت مديحة " سرى " إلى بائع قريب فخرج الغلام يعدو .. وبعد خروجه مباشرة دوت صفارة الإنذار فنادته مديحة لترجعه .. ولكنه كان قد ابتعد فى الشارع فلم يسمعها وبعد قليل سمعت مديحة ضرب وصوت القنابل ولما خرجت إلى الشارع كانت الطائرات المغيرة تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الناس بالمدافع الرشاشة ..
فجرت مذعورة .. وهى تصيح :
ـ ابنى .. ابنى ..
وبعد عشر دقائق رآها الناس تحمل كتلة من اللحم على صدرها وكانت تمشى ثابتة الخطى وقد جف دمعها .. ورآها حسام تمشى فى الطريق الطويل مع الشمس الغاربة .. والغلام على صدرها .. وجموع الناس حولها ..
***
وفى الصباح أخذت مديحة تجمع ملابسها ..
وسألها حسام والدمع فى عينيه :
ـ إلى أين ..؟
ـ لقد ذهب الشىء الذى كنت لأجله أعيش معك .. وأتنفس لأرعاه وأتحمل المشاق لأطعمه فكيف أبقى ..؟
ـ لم تحدثينى قط عنه ..
ـ وهل كنت تبقينى فى بيتك لو عرفت أن لى ولدا ..؟
ـ طبعا ..
ـ أبدا .. ولا ساعة واحدة .. وأنا أعرف الرجال .. وأعرف أنانيتهم ..
ـ قد لا تعرفين .. أننى عزمت من شهور طويلة على أن نتزوج وبعد أيام سأنفذ الفكرة ..
ـ أننى الآن لا أصلح لأى شىء .. لقد ذهبت روحى .. وهل تقبل أن أعيش معك من غير روح ..؟
ـ أقبل ..
ـ إن قبلت أنت .. فلا أقبل أنا .. مستحيل .. أننى ذاهبة ..
ـ وهل .. هو .. الذى كنت تذهبين إليه كل خميس ..؟
ـ طبعا .. ولم أكن أسافر .. لأى بلد كما قلت لك .. كان فى القاهرة .. تركته عند سيدة ترعاه .. وكنت أعطيها كل شىء .. ولما دخل المدرسة واشتد ساعده .. وأصبح فرحتى الكبرى .. ذهب .. ككل شىء فى الحياة ..
وأخذتها العبرات ..
وسألها :
ـ إلى أين أنت ذاهبة .. هل لك أقرباء فى القاهرة ..؟
ـ أبدا .. ولكنى سأمشى .. فى المدينة وأقف على رءوس الشوارع والميادين وأقول للناس .. قاتلوا الوحوش .. قاتلوا الأندال .. قبل أن يقتلوكم ..
ـ وبعد هذا ..؟
ـ وبعد هذا .. يحدث الله أمرا ..
وأخذت طريقها إلى الباب الخارجى .. وحاول منعها فلم يستطع ..
***
وجلس بعد أن ذهبت .. صامتا .. حزينا .. ثم تحرك وجلس إلى اللوحة وأخذ يرسم وهو منفعل .. المشهد المسيطر على ذهنه والآخذ بحواسه .. المشهد الذى رآه .. صورة الأم وهى تحمل غلامها الشهيد .. ووراءها الجموع الزاخرة تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .. وعندما فرغ من الرسم وتأمله .. رضى عن نفسه وأدرك السبب الجوهرى الذى جعل اللوحة .. معبرة .. وحية ..


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 198 بتاريخ 20/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــ















  

حارس البسـتان



    كان نعمان حارسا لبستان الشيخ سليمان ، وهو بستان كبير غنى بالثمر ومن أشهر البساتين فى الصعيد ، ومنذ ثلاثين سنة ونعمان يحرس هذا البستان .. ولم تحدث فى خلال هذه السنين الطوال حادثة سرقة واحدة ..
      كانت المنطقة كلها تعيش آمنة .. كان مرهوبا قوى البطش .. وكان الفلاحون ينسجون حول بندقيته المقصوصة الأساطير .. يقولون أنها تفرش .. وتغرد .. وتنطلق منها النيران فى كل اتجاه .. مع أنه لم تطلق من هذه البندقية رصاصة واحدة ..
     وكان الغلامان سعيد وعمار يصطادان البط فى البركة القريبة من البستان عندما انطلقت خرطوشة طائشة من بندقية سعيد فأصابت عمار فسقط والدم ينـزف منه ..
     وأصاب الذعر سعيدا فجرى إلى نعمان خفير البستان وقص عليه ما حدث وهو يبكى ويرتعش ..
      فهدأ نعمان من روعه وذهب معه إلى المصاب فحمله إلى داخل العريشة .. وأسعفه وربط الجرح وتركه هو وسعيد لزوجته لتعنى بالجريح ولا تدع سعيدا يخرج من البستان حتى لايتعرض لأى سوء ..
     وكانت فلاحة قد بصرت بالمصاب وهو ملقى بجوار البـركة وسعيد يجرى مذعورا .. فطارت إلى أهله وأخبرتهم أن سعيدا قتل عمارا ..
      وانتشر الخبر فى القرية بسرعة النار فى الهشيم .. وخرجت عائلة عمار وهى مسلحة بالبنادق ، والشوم ، والهراوات .. لتضرب أى إنسان تجده من عائلة سعيد ..
 وكانت عائلة سعيد قليلة العدد وضعيفة بالنسبة لعائلة عمار .. فخشيت أن تفنى جميعا .. وهرب أفرادها فى المزارع ..
     وأخذ رجال عمار يزحفون إلى مكان الحادث وفى عيونهم الشر والغضب والجهالة .. ورآهم نعمان خفير البستان وهم يتقدمون .. وأدرك أنهم يريدون قتل الغلام المسكين فتناول بندقيته وتحرك من مكانه حتى أصبح قريبا من الطريق الذى يأتى منه الرجال ..
     وجلس هادئا وبندقيته ملقاة  بجانبه وكانوا يتقدمون فى سواد يسد عين الشمس ، وعجب للجهالة وللغضب الذى يقلب الإنسان إلى شيطان مجنون .. وتساءل هل جاء كل هؤلاء ليقتلوا غلاما مسكينا لاعصبية له فى القرية ولا عائلة قوية تحميه .
      وظل يراقبهم وهم مهرولون ويلوحون بالنبابيت .. ومنهم من كان يجرى فى قلب المزارع ويدوس على بساط البرسيم ..
     وعندما لمحوه وهو جالس على رأس الطريق حبسوا من خطوهم إذ ندر أن يترك نعمان البستان فى ليل أو نهار ..
      وكانوا كلما اقتربوا منه تمهلوا فى سيرهم حتى سمعوه يقول بصوت خافت وهو ينقر الأرض بعصا صغيرة من البوص ..
     ـ لا أحد منكم يعبر الطريق ..
     فتوقف الرجال واضطربوا ..
     ـ إننا بعيدون عن البستان ونبحث عن سعيد .. لقد قتل عمار ..
     ـ أعرف هذا .. ولا أحد منكم يتقدم خطوة ..
     فسمر الرجال فى أماكنهم كأنما غشيتهم غاشية .. وقال أحدهم ليخفف من حدة الموقف ..
     ـ إننا لانريد به شرا .. وسنسلمه للمركز ..
     ـ ليضربه العساكر .. وليصنعوا منه مجرما فى يوم وليلة .. لا ..
     ـ ولكنه قاتل ..
     ـ انه لم يقتل .. والخرطوشة طائشة .. وهذا يحدث لكل إنسان ..
     ـ وأين عمار ؟ .. نريد جثته ..
     ـ  سأحملها إليكم فى المساء .. والآن اذهبوا .. ومن بقى منكم بعد أن أعد العشرة فسأصرعه ..
     وعجب الرجال لتخاذلهم وللضعف الذى طرأ عليهم فجأة وقد كانوا أشد ما يكونون حماسة للانتقام .. ماذا جرى لهم أيخذلهم رجل واحد .. ومنهم من هو أشد بطشا منه وقوة .. وسلاحهم أشد فتكا من سلاحه .. وليس معه سوى بندقية عتيقة مقصوصة .. ربطها بالسلك والدوبارة .. فما سر قوته وجبروته طوال هذه السنين ؟..
     وقبل أن تغرب الشمس بصر الفلاحون بنعمان قادما على الجسر وهو يمشى ثابت الخطى بجوار حماره .. وقد وضع على كتفه بندقيته العتيقة .. وكان يركب على الحمار سعيد وعمار وكانا مازالا صديقين متحابين .. وقد احتضن سعيد عمارا ليمنعه من السقوط .. إذ كان الأخير بادى الاعياء ..
     وقال أحد الفلاحين .. بعد أن مر عليهم نعمان :
     " أرأيت أننا كنا معتدين وحمقى ؟ ‍‍‍‍‍‍‍.. ولقد انتصر علينا هذا الرجل وحده .. لأنه كان مؤمنا .. يدافع عن غلام مسكين وقد ظل طول حياته .. يحمى الضعفاء .. ويسحق الشر .. أينما كان فأعطاه الله هذه القوة الرهيبة "






================================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية فى 16|4|1955 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " لمحمود البدوى فى سنة 1961


السماء تطل علينا


كانت ريح الشتاء الباردة تهب على المدينة ..
وكان عبد الرازق منصور .. وهو تاجر يمتلك متجرا فى حى الظاهر .. فى داخل محله ساعة الغروب عندما داهمه " البوليس " وفتش المتجر ثم قبض عليه .. ووضعوه فى السيارة .. وانطلقوا به فى سرعة الريح .. وكان عبد الرازق متزوجا حديثا ولم يمض على زواجه من خيريه أكثر من أربعة أيام ..
وروعت المسكينة عندما علمت الخبر .. فارتدت ثوبها الأسود سريعا وخرجت إلى الطريق وحدها ..
وكان العشى يزحف .. وبدت المصابيح تلتمع فى الشارع ..
وأخذت خيرية ترتجف منذ هبطت من " الترام " .. وأحست بالألم فى معدتها وكانت هذه هى ثانى فاجعة تنزل بها فى أسبوع واحد .. فمنذ ثلاثة أيام جاءها نعى أخيها زكريا فى معركة بور سعيد فقد استشهد مع ثلاثة من الطلبة ومزق الخبر نياط قلبها وهاهى الفجيعة الثانية تنزل بها فى الأسبوع نفسه .. فيقبض على زوجها أنيسها فى وحدتها .. ورفيق حياتها .. ولم تكن تدرى كيف تدخل مركز " البوليس " .. ومن الذى ستسأله ..
وكانت قد مسحت عبراتها ولكن ظلت آثار الدموع على خديها .. وكانت تسير مهرولة فى الشارع الضيق ومتخذة جانب الطوار لتتفادى حركة السيارات .. وسألت عابر طريق عن موقع مركز " البوليس " .. فدلها الرجل على الطريق الذى تسلكه وكان وهو يتأمل آثار الدموع على وجهها الصبوح .. يود أن يرافقها إلى هناك وعند بوابة القسم .. دارت دورتين وهى تشعر برجفات قلبها وشىء يتمزق فى صدرها .. من فرط الانفعال والتعاسة .. ثم اقتربت من " العسكرى " الواقف على الباب تسأله فى ضراعة ..
فقال لها بغير اكتراث :
ـ مخالفة تسعيرة أو تهمة أخرى ..؟
ـ لا أدرى بالضبط .. فقد علمت الخبر الساعة ..
ـ على أى حال سيخرج الليلة .. وربما أطلقوا سراحهم جميعا ..
ونظر إليها العسكرى فى ثوبها الأسود .. وكانت شابة جميلة .. وظاهر عليها الخجل والارتباك الشديد .. وأدرك أنها تأتى هذا المكان لأول مرة فتحركت المشاعر الإنسانية فى أعماقه .. وأشفق عليها من الليل .. ومن الظلام ولم يشر إليها بأن تدخل إلى مكاتب القسم لتقابل أى شخص فى الداخل بل أحس بالرغبة فى أن يبقيها بجانبه .. ويساعدها ما وسعه الطوق ..
وسألها وهو يتأملها عن قرب :
ـ لماذا خرجت وحدك يا ست فى الليل ..؟
ـ ليس لى أحد ..
ـ وزوجك .. اليس له أقارب فى القاهرة ..؟
ـ أبدا .. انه وحيد ..
ـ تفضلى استريحى ..
وحرك لها صندوقا صغيرا ووضعه إلى جانب البوابة على مبعدة ثلاثة أمتار منه فجلست عليه المسكينة مندهشة مخفضة رأسها ..
وتفحصها بعينيه وهى جالسة .. وكانت له بنت فى مثل سنها زوجها منذ سنة إلى قريب له فى منيا القمح .. وقد تذكرها الآن وشعر بهزة من عواطف الأبوة ..
وسأل خيرية :
ـ ما اسم زوجك .. بالكامل .. يا هانم ..؟
ـ عبد الرازق منصور ..
ـ وأين قبضوا عليه ..؟
ـ فى محله بشارع الظاهر ..
ـ سأعرف خبره ..
ودخل من بوابة القسم فى هذه اللحظة أحد جنود الداورية فكلفه العسكرى الواقف على الباب أن يسأل عن زوج خيرية هانم ..
وعاد الجندى بعد لحظات يقول :
ـ أنه فى الحجز ..
ـ وسألت خيرية ..
ـ ومتى سيخرج ..؟
ـ بعد التحقيق .. لم تسأله النيابة بعد .. والأحسن أن تأتى له بعشائه ..
ولم تكن خيرية قد فكرت فى هذا .. كانت تتصور أنهم يأكلون بالداخل ويقدم لهم الطعام ..
ولما عرفت أنه سيظل إلى ساعة متأخرة من الليل من غير طعام .. تحسرت عليه وتألمت لحاله .. وأسرعت إلى أقرب مطعم .. وعادت تحمل له لقمة وقدمتها للجندى .. فأخذها هذا ودخل من الباب الحديدى ..
*** 
ورجعت إلى مكانها .. وكانت تجلس تحت العراء .. فأحست بالبرودة .. ولم تكن ترتدى معطفا .. ولكنها شغلت بمنظر أثار انتباهها .. وأنساها إلى حين الاحساس بالبرودة .. فقد وقف أمامها الطابور المسائى فى ساحة القسم .. صفان من " العساكر " ببدلهم السوداء وأزرارهم النحاسية اللامعة .. و " الشاويش " ينادى عليهم بأسمائهم .. 
وبعد أن انتهى الطابور .. وخرج معظم العساكر من الباب الخارجى .. تحرك جندى فأخرج مكتبا صغيرا باهتا .. من داخل الغرفة ووضعه تحت الباكيه .. وأخذ فى الضوء الشاحب يكتب فى دفتر صغير .. ووقف أمامه جنديان آخران وكانا قد حلا حزاميهما ..
وكان هناك قهوجى يأتى من الخارج بين حين وآخر حاملا أكواب الشاى للعساكر الذين ظلوا فى الداخل .. ووقف بضعة أشخاص بالممرات الخارجية ينتظرون الذين فى داخل الحجز ..
*** 
وسمعت خيرية الساعة تدق الثامنة .. وإن لرنينها وقعا محزنا فى نفسها .. وأخذت خطوات الأقدام تقل فى الردهة وفى الممرات المغطاة بالأسفلت ..
وفتح الباب الحديدى ثم أعيد رتاجة من الخارج ثانية .. وتلاشت خطوات أقدام وأخذت فى الابتعاد ..
وكانت خيرية تدرك وهى جالسة فى مكانها أن هناك كائنات بشرية تعيسة فى الداخل رجالا ونساء وربما صبيان أيضا ..
وكانت ترد بصرها عن هذا إلى الخارج ولم تستطع من خلال الظلمة الخفيفة التى اصطبغ بها الليل فى الخارج أن ترى شيئا ..
وكانت الحركة قد أخذت تموت فى داخل القسم نفسه وخفت أصوات الأقدام ..
وعندما شعرت بالملل وطال الانتظار تحركت من مقعدها .. واقتربت من العسكرى وكان قد غير موقفه من الباب وجعله تحت المصباح الذى فى الشارع فبدا وجهها الصغير فى الضوء وأنفها الدقيق وعيناها العسليتان .. وشعرها نصف مقصوص .. وهو يلتمع ويتموج ..
وكانت ترتدى ثوبا أسود من الصوف من قطعة واحدة يغطى جسمها كله ولكنها شعرت بالبرودة .. وظلت تحدق فى العسكرى فى شرود .. وقد أحست بأن شيئا يجرى فى الداخل لم تستطع فهمه ولكنها خمنته ..
ثم استدارت مرة أخرى على أثر حركة شديدة فى الداخل .. فقد فتح الباب الحديدى على مصراعيه .. وأخذ " العساكر " يخرجون المحبوسين ويسوقونهم إلى اللورى الذى وقف على الباب .. 
وتجمع حول اللورى نساء فقيرات فى جلابيب سمراء يحملن الأطفال الرضع ورجال ذوو وجوه نحاسية .. وكان فى داخل اللورى نفسه خليط من الرجال والنساء والصبيان ..
ولما أخذ اللورى فى التحرك .. ارتفع الزعيق .. وبدا الصراخ يمزق الآذان .. وسالت عبرات خيرية فقد كان زوجها .. مع من ذهب ولم تستطع أن تبادله أكثر من كلمتين وسط البكاء والصراخ ..
وظلت تحملق فى الفضاء بعد أن غاب اللورى وابتلعه الظلام .. وابتلع معه زوجها رفيقها وأنيسها فى الليل .. ومبدد وحشتها .. وأحست بأنها قد انفصلت من الحياة وتقطعت بها الأسباب ..
فوقفت فى مكانها سادرة .. شاردة وعيناها لاتطرفان ..
ولم يتحرك العسكرى الواقف على بوابة القسم .. ولم ينبس ببنت شفة .. أحس بأنه خدعها وارتكب فى حقها جرما ..
فقد سببوا لها هذا الشقاء .. وتركوها وحدها فى الليل ..
وتحركت على الرصيف بصعوبة بالغة .. فقد عاودها الألم .. الذى كانت تحس به وهى قادمة ..
وأظلمت القاهرة المضيئة فى عينيها وأحست بالوحشة والفراغ ..
وسارت فى الشارع الصغير الذى فيه بيتها وهى مطأطأة الرأس ذليلة ..
وفتحت باب شقتها .. ويدها ترتعش وارتمت على سريرها وهى بكامل ملابسها وأخذت تنشج .. وأحست بعد مضى ساعة .. بحركة فى باب الشقة الخارجى .. وكأن شخصا يعالج قفل الباب .. فارتجفت .. وتشبثت بالفراش ثم لم تعد تسمع شيئا .. فنهضت وعيناها مقرحتان واتجهت إلى النافذة .. فرأت السماء تتشقق بالغمام ..
وطالعها السكون من كل ركن .. وأحست بالبرودة .. وبالخوف .. وبحاجتها إلى قدح من الشاى يبعث فى جسمها الدفء ومشت متثاقلة إلى المطبخ وحاولت مرات عدة اشعال الوابور ولكن دون جدوى .. كانت أصابعها متقلصة .. وأحرقت أناملها أعواد الكبريت ..
ثم رأت أن تشعل شمعة .. لتشعل بها الوابور .. ونجحت فى اشعاله ثم نفخت فى الشمعة وأطفأتها .. ولمحت وهى تستدير شخصا يحدق فيها من الردهة الصغيرة المؤدية إلى المطبخ .. وكانت تتصوره خيالا .. فإذا به حقيقة .. فصرخت ..
كان واقفا فى مواجهتها وعصابة سمراء على رأسه .. وعيناه تحدقان فى الظلام .. ولم تكن النافذة موصدة تماما فتسلل شريط رفيع من الضوء إلى الداخل وانطبع على البلاط ..
ولم تكن تدرى كيف دخل وأدركت أنه ربما استعمل مفتاحا مصطنعا أو دفع الباب بقوة وربما تكون هى قد نسيت غلق الباب وتركته مفتوحا .. وكان هو بالداخل وأحس بها عندما عادت من الخارج ..
ورأته يتحرك إليها فصرخت .. ولكن صوتها لم يخرج من صدرها .. واقترب منها ومال إلى الأمام حتى كادت عيناه الغريبتان تلامسان وجهها وشعرت بالخوف يشل كل حركة لها ..
ورأته يمد يده إليها .. يلامس جسمها وصرخت وبدا لها وكأنها ستموت وتمنت لو أنها ماتت بالفعل .. وضمت ثوبها على صدرها وتكورت فى زاوية من الجدار وراء كرسى وجدته هناك لتحتمى به ..
ورأت الرجل يستخرج من جيبه شيئا .. أراه على راحة يده .. ثم أشهره .. فإذا بها مدية ذات نصل حاد ..
ولم تشعر بالرهبة .. كما كان مقدرا فقد جمد دمها فى عروقها ومات حسها ولم تعد تبكى على شىء يقع ..
ورأته يتحرك بعد أن أشهر النصل .. وفتح الدولاب الصغير الذى فيه الفضية .. وأخرج أنفس مافيه .. وكومه فى شىء كالجراب كان يحمله ..
ثم دخل غرفة النوم .. وفتح الدولاب .. بحركة خفيفة .. وكان يبحث عن النقود ..
وتركته يفعل ما يحلو له .. وأحست بأنها وحيدة .. ولا عون لها ولا حول .. وتحركت شفتاها .. تدعو الله .. أن ينقذها .. ويرحمها ..
فقد حلت بها المصائب مرة واحدة .. حمل إليها نبأ مصرع أخيها فى معركة مع الإنجليز .. وسجن زوجها اليوم ..
وركعت على البلاط .. وهى تتطلع إلى داخل الحجرة .. وكان اللص لايزال يبحث فى الأدراج وبين الرفوف ..
ورأته وقد ألقى بفساتين الزفاف فى قسوة على السرير .. وعلى الأرض .. ونكش كل شىء بيد همجية ..
وتحاشت النظر إليه وهو يبعث بملابسها الداخلية الرقيقة .. وأحست بقشعريرة ..
ولم تكن قد توضحت ملامحه تماما ولم يكن يعنيها فى هذه اللحظة ..
وعندما طوى كل ما جمعه وخرج من الحجرة أحست بشىء كالصرير ..
وحركتها غريزة الدفاع عن النفس والمال .. فالتقطت شيئا من فوق الأرض .. لتضربه به ..
ولكنه أدرك خواطرها .. فاقترب منها وأخذ يشد وثاقها وكممها وهى تصرخ واستطاعت أن تعضه ..
وتركها ـ بعد أن أوثقها ـ شبه ميته .. وظلت تحدق فيه وترميه بنظرات من نار وهو يتحرك إلى الخارج .. حاملا الأشياء التى سرقها ..
وفتح الباب الخارجى وتركه مفتوحا وهبط مسرعا السلالم ..
*** 
وتركت عبراتها تمسح أحزانها .. وظلت فى وثاقها منطرحة على البلاط ونظرها إلى الباب المفتوح ..
ثم رأت شبحا يدخل .. ولما تبينته .. صرخت .. من المفاجأة ومن الفرحة الكبرى التى تهز الأعصاب فقد كان هو أخاها زكريا .. بلحمه ودمه .. أخاها الذى حدثوها بمصرعه منذ أيام .. وأنه يدخل وفى جسمه وملابسه آثار المعركة التى خاضها ..
وحل وثاقها وطوقته .. وأحست بكنوز الدنيا عادت إليها .. وأن السماء تنظر إلينا ولا تنسانا أبدا ..
ـــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . المساء بالعدد 1397 بتاريخ 19/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــــ


تحت الريح

كان الطالب عبد المحسن ذاهبا فى الأجازة المدرسية إلى قريته .. نزل من القطار فى محطة " منقباد " ليركب المعدية إلى البر الشرقى .. ووصل إلى المرسى وأشعة الشمس تتراقص على صفحة الماء .. وقرصها قد اتسع وأخذ يتوهج بالحمرة القانية قبل أن يتدلى .. ويشعل النار فى الجبل .. وكانت ريح الشتاء فى ساعة الغروب راكدة .. والجو المحيط ساكنا ولم يظهر شراع واحد فى النهر ..
ووضع عبد المحسن السلة التى حمل فيها الأشياء من المدينة .. وأخذ يدور ببصره فيما حوله من سكون .. ويتطلع إلى مكان المعدية فى البر الشرقى وكانت الرؤية واضحة .. والطيور تعبر النهر فى أسراب صغيرة .. والقرية على مرمى البصر وتخيم عليها بساتين النخيل .. وظهرت شجيرات السنط الثلاث فوق المرسى ..
ورأى هناك على الجسر .. البهائم عائدة من الحقول ..
رآها من بعيد .. تسير فى خط طويل متعرج .. وعلى ظهورها الخيش والبرسيم ..
وكان فى الموردة مركب واحد كبير .. طوى الشراع .. وحول الدفة .. وبجانبه فلوكتان ..
ولم ير المعدية .. لاجارية فى النهر ولا راسية على الساحل .. ولم يكن يدرى أين ذهبت .. ثم رآها بعد ساعة طاوية القلع وراسية تحت وابور الطحين وزعق وهو جالس تحت الريح :
ـ عم صابر .. حل ..
ولم يكن فى المعدية أحد يسمع صياحه وبعد ساعة تيقن أن المعداوى .." روح " بعد أن يئس من الريح .. وسقط الليل ..
وفكر عبد المحسن .. فى مكان يقضى فيه الليل بعيدا عن العراء .. وشعر برجفة وهو جالس وحده على ساحل النهر .. ثم رأى أن يعود إلى المحطة .. وأقبلت امرأة من بعيد وكانت تحمل على رأسها مقطفا .. ووضعت المقطف عند المرسى .. وجلست تحت الريح ..
جلست صامتة .. تتطلع إلى الأمام .. وثوبها الأسود يغطى قدميها .. وطرحتها تدور على رأسها وجيدها ..
ومرت فترة صمت طويلة وكان سكون الريح قد أشاع السكون على الشاطىء المقفر وبدت مساحات واسعة من الرمال تدخل فى الظلمة الرهيبة .. وخيل إلى عبد المحسن أن الجالس فى هذا المكان يعد منفصلا عن العالم أجمع ..
وظهرت حدأة ضخمة أخذت تحلق فى الجو .. ورسمت دائرة فوق رأسهما وبعدها انقض جارح على الماء وكان يخرج فى كل مرة وفى فمه سمكة صغيرة ..
واشتد البرد وبدت ريح باردة تأتى من الغرب .. وأخذت النيران تشب وتخبو فى الحقول ..
ونظر عبد المحسن إلى الفلاحة الجالسة عن قرب .. وسألها بعد أن أحس أن شيئا ما حدث على الشاطىء :
ـ المعدية بتعدى من هنا ..؟
ـ أيوه ..
ـ وليه ماجتش ..؟
ـ " غلينى " ..
وأضافت ..
ـ يمكن تعدى .. لما تهب الريح ..
ـ والمجاديف ..؟
ـ البحر واسع ..
وحركت طرحتها على خدها .. وهى تنظر إلى عبد المحسن نظرة فاحصة .. ولما عرفت أنه ابن الشيخ صالح .. قالت :
ـ أخوك عبد الرحمن .. كان معدى معانا الصبح ..
ـ ورجع ..؟
ـ لازم .. أنا أصلى اتأخرت .. عبد العال فى المستشفى ..
ـ سلامته .. حنقعد هنا للصبح ..؟ أنا راجع المحطة ..
ـ انتظر يمكن المعدية تيجى ..
ـ مش باين ..
إن ماجتش .. روح وابور سرحان .. أحسن من مشوار المحطة فى الليل ..
ـ مين حارسه ..؟
ـ عليان .. راجل عربى وامرأته نظيفة .. تجد كباية مية تشربها .. وفرش تنام عليه ..
ونهض ومشت بجانبه وأصرت على أن تحمل له السلة ..
واتجها إلى الوابور
*** 
ورآهما الخفير عليان من بعيد قادمين نحوه .. ولما نبح عليهما الكلب أسكته بضربه .. وكان الرجل يجلس خارج مبنى الوابور فى العراء .. وعليه جبة حمراء ولبدة وبجانبه خفه .. وحوله بعض الأغنام ترعى الحشائش ..
وكان يبرم فى يده لفافة تبغ .. ولما اقتربا منه رفع عينيه البراقتين برهة ثم ردهما إلى الأرض .. وعاد يلف التبغ ..
وسمعاه يقول :
ـ مرحبا ..
وهو ينهض فى وثبة واحدة وسلم على عبد المحسن بيد قوية .. وفرش له حراما ..
وكان وحده فى وابور المياة .. فقد ذهبت زوجته فى الصباح تطحن وتزور أهلها .. وقال لجميلة :
ـ اعملى قهوة لنا يا عروس ..قهوة عربى .. واعملى لنفسك شاى .. والصندوق جوا فيه كل حاجة ..
وجلس عبد المحسن يشرب القهوة .. ويدور ببصره ليتبين المكان ولم يشاهد غير البناية الصغيرة التى وضعت فيها الماكينة وبجانبها خص من البوص .. ليستظل فيه عليان وبجانب الخص مربط للمواشى ولكنها كانت ترعى على هواها منطلقة من كل قيد ..
وكانت هناك فرس شهباء جميلة .. تمرح فى المكان .. وتتبختر كالعروس .. وكلب ضخم خلاف الذى استقبلهما بالنباح .. رفع رأسه وهوهو .. فى زمجرة .. ونهاه عليان فسكت .. وربض فى مكانه ..
وكانت الأرض حول الوابور .. رملية ومنبسطة وبدت حقول القمح .. تشقها .. جداول من غيطان الفول .. ومن ورائها البرسيم الأخضر يشرب الصقيع .. وكانت مجرى الوابور جافة وكذلك القنوات وأحواض الزرع .. وأخذت الريح الباردة تتحرك وتصفع الوجوه ..
***
وقال عليان .. بعد أن عشى ضيفيه ..
ـ فرشت لك يا عبد المحسن افندى فى داخل الوابور .. وانت .. يا جميله نامى فى الخص .. وخدى هذا الغطاء .. كفاية ..؟
ـ كفاية .. وكتر خيرك ..
ـ ناموا فى أمان الله ..
وتركهما وذهب لبعض شئونه ..
***
وتمدد عبد المحسن على الحشية .. ولف جسمه فى حرام من الصوف ..
ورأى جميلة قد تكورت هناك فى الخص وكانت النجوم تلمع فى السماء ..
وأغمض عينيه لينام .. ولما فتحهما وجد عليان يمشى على حافة المجراة وقد تلثم وبيده بندقية ونبح الكلب برهة ثم خيم السكون وراح عبد المحسن فى غفوة طويلة ثم استيقظ .. وفى آخر الليل مد بصره إلى حيث ترقد جميلة وخيل إليه أنها تقاسى من البرد .. فقد رأى جسمها يتحرك تحت ثوبها الأسود .. ثم عاوده النوم واستيقظ مذعورا على دوى الرصاص ولما نهض فزعا ينظر من الباب .. دخلت جميلة فى تلك اللحظة مفزوعة ..
ودفعته بجسمها إلى الداخل وهى تقول :
ـ ابعد .. ابعد .. احسن تموت ..
وكانت ترتعش .. وكان الرصاص يدمدم فى الخارج ..
ونظر عبد المحسن من الباب فرأى عليان يرقد وراء حوض الوابور .. ويطلق الرصاص بعنف فى اتجاه المزارع ..
وتلفت عليان فرأى عبد المحسن واقفا على الباب المفتوح .. فأسرع وأغلق الباب وهو يقول :
ـ خليكم من جوا .. أوع حد يتحرك ..
ثم رأى الرصاص .. يستقر فى حائط الوابور .. وخشى أن يصاب عبد المحسن أو جميلة .. فترك مكمنه .. وخرج لملاقاة المهاجمين بعيدا فى العراء .. كان يريد أن يبعد المعركة عن ضيفيه ..
ورقد عليان هناك يصلى المهاجمين بناره .. وانهمر عليه الرصاص .. كانوا يريدون قتله .. وتمزيق جسده ..
وكان يقاتل وحده بمدفع رشاش .. وفى قلبه قوة رهيبة لم يكن من طبعه أن يعتدى على أحد ولكنهم اعتدوا عليه وكرروا الاعتداء .. وفى كل مرة كان ينتصر عليهم ..
وبعد مدة من العراك الرهيب أدرك عبد المحسن أنهم حاصروا عليان ودفعوا به إلى الوراء فى اتجاه الوابور .. ليقضوا عليه .. فاهتز جسمه وارتجف .. ورأى وميض البارود يشتعل أمامه وتقذف رصاصة من طاقة صغيرة واستقرت فى الداخل فصرخ .. ورأى جسما يلتصق به ويدفعه إلى الجدار .. وأخذ العرق يتفصد منه .. وشعر بالإطمئنان لوجود امرأة معه فى هذا المكان .. وفى الخارج المعركة والنار .. والموت .. وفى الداخل المرأة .. والحياة وتحسس بيده شعرها .. لم يكن يدرى أن لها شعرا ناعما جميلا ككل أنثى يراها فى المدينة عارية الشعر .. عارية السيقان .. ورأى عينيها فى الظلام .. تبحثان عن عينيه فى خوف وحنان ولمس كتفيها .. وأحس برعشة جسمها .. واستقرت رصاصة فى الباب وومض اللهب ووجد نفسه يجذب المرأة إليه .. كأنها ملاذه الوحيد الباقى فى هذه الحياة ..
والتصقت به وهى ترتجف مثله ولفهما الاعصار .. وكانت المعركة فى الخارج دائرة على أشدها ..
***
وتوقف صوت النار وخيم السكون ..
وعندما فتح عبد المحسن عينيه لم يجد جميلة بجواره .. كانت قد تركته بعد أن أهالت على وجهه التراب ..
وخرج ..يبحث عن عليان ووجده هناك منبطحا وراء مدفعه الرشاش وقد أغلق عينيه وأدرك عبد المحسن أنه قتل ووقف على رأسه يتأمله فى سكون وقلبه يضرب بشدة .. ورأى الدم يسيل على قميصه ويلطخ صدره .. ثم رآه يفتح عينيه ويقول فى هدوء ..
ـ مشوا الكلاب ..
ولم يقل عبد المحسن شيئا وأخذ يتأمل الرجل أكثر وأكثر .. وبعد لحظات سأله :
ـ هل أرادوا سرقة .. البهائم ..؟
ـ لا .. إنهم لايريدون السرقة وإنما يحاربون الوابور .. لا يريدونه فى هذا المكان ..
ومنذ دقت المواسير فى الأرض وهم يتعاركون مع صاحبه .. لأنه ينافسهم ويمد المساقى فى أرضهم .. لماذا لاتفعلون شيئا فى المدارس لتذهب الجهالة عن هؤلاء الكلاب .. سقط واحد .. هنا وحملوه .. وسقط ثان .. وحملوه ورأيتهم يلقونه .. فى النيل .. وقبل أن ينصرفوا مخذولين وجدوا الفرس .. فأطلقوا عليه النار ..
وفى كل مرة يغيرون علىَّ .. أدافع وأصيب منهم مقتلا .. وأنا لا أريد أن أقتل بعوضة .. ولكننى أصبحت فى نظرهم قاتلا .. وسيجيئون بعد شهر ليأخذوا بثأرهم .. وسأقتل منهم .. وهكذا لاتفرغ هذه الحلقة .. ولا نستريح أبدا .. لماذا لاتفعلون شيئا فى المدارس .. ليقضى على هؤلاء الكلاب .. وابتسم عبد المحسن .. وهو يتأمل هذا الرجل الرهيب الذى اخترق جسمه الرصاص ومع ذلك ظل محتفظا بكل جبروته ..
*** 
ورأى عبد المحسن الفرس راقدة هناك فى الحقل .. غارقة فى الدم ..
وسأله عليان وهو يتطلع إليها :
ـ ماتت ..؟
ـ فيها الروح ..
ـ اذهب إليها واعرف حالها ..
وعاد يقول له :
ـ أنها فى النزع الأخير .. وتتألم كثيرا ..
ـ الكلاب ..
وسأله :
ـ أتعرف كيف تطلق النار ..؟ نشن عليها واضرب فى رأسها ..
ومد إليه المدفع ..
ولما رأى أن عبد المحسن لا يتحرك أغلق عينيه وأطلق هو .. واسود وجهه من الألم .. وذهب عبد المحسن ليحمل إليه بعض الماء ليغسل جراحه .. وكانت الشمس قد طلعت .. ورأى وهو يتطلع إلى البر .. جميلة تمشى الهوينا على الساحل .. ولما عبر ببصره النهر .. رأى ثلاثة من الجنود الخيالة يتجهون بخيولهم إلى الموردة ..
وفى تلك اللحظة نشرت المعدية القلع .. وكانت نسمات الريح تهب على النهر ..
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى م . الجيل بالعدد 242 بتاريخ 13/8/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1961